القاهرة – بدأت القاهرة تحرّكاتها الرسميّة الأولى لدعم السودان في الملفّين الأمنيّ والسياسيّ، حيث استضافت في أحد المنتجعات السياحيّة بالعين السخنة على مدار 9 أيّام من 22 حتّى 30 أيلول/سبتمبر رموز القوى السياسيّة والحركات المسلّحة المتمثّلة في الجبهة الثوريّة وقوى نداء السودان لرعاية الحوار الوطنيّ والخروج باتفاقات لإحلال السلام وإرساء الأمن في الأراضي السودانيّة كافّة.
وكانت القاهرة من بين الدول الأول التي تتابع عن قرب تطوّرات المشهد السياسيّ منذ عزل الرئيس عمر البشير في نيسان/إبريل، بالتنسيق المستمرّ مع المجلس العسكريّ الانتقاليّ على المستوى الرئاسيّ، ورعاية الحوار بين قوى الحريّة والتغيير والجبهة الثوريّة السودانيّة الذي تمخّضت عنه وثيقة الإعلان الدستوريّ. وعلى المستوى الحكوميّ، كان وزير الخارجيّة سامح شكري من بين المسؤولين الأوائل الذين زاروا السودان في 9 أيلول/سبتمبر للتنسيق مع الحكومة الجديدة بعد ساعات من حلف اليمين الدستوريّة برئاسة رئيس الوزراء السودانيّ عبد الله حمدوك.
وقال مصدر أمنيّ مصريّ على إطلاع بالملف السودانيّ في حديث لـ"المونيتور": "بعد الاستقرار النسبيّ داخل السودان منذ عزل الرئيس عمر البشير في 11 نيسان/إبريل والتوقيع على الإعلان الدستوريّ بين المجلس العسكريّ الانتقاليّ وقوى إعلان الحريّة والتغيير، أصبح الملف الأمنيّ هو المعضلة الرئيسيّة في معادلة الاستقرار السياسيّ داخل السودان، والذي ينعكس سلباً على الأمن القوميّ المصريّ إذا ما استمرّ التوتّر الأمنيّ وسيطرة الحركات المسلّحة في أنحاء مختلفة داخل الأراضي السودانيّة".
أضاف المصدر: "إنّ مصر تعطي من خلال رعايتها الحوار والمفاوضات خبرتها ورؤيتها في شأن الترتيبات الأمنيّة وإدماج الجيوش والحركات المسلّحة في الجيش النظاميّ السودانيّ وتكوين جيش وطنيّ مهنيّ موحّد لخدمة الدولة".
وقبيل عزل عمر البشير كان لدى السودان 5 جيوش غير نظاميّة، لكلّ منها مصالحها الاجتماعيّة والسياسيّة، فبجانب الجيش السودانيّ الوطنيّ هناك قوّات الدعم السريع وقوّات الجبهة الثوريّة وقوى الكفاح المسلّح الأخرى، والتشكيلات العسكريّة للإسلاميّين والسلفيّة الحربيّة، والميليشيات القبليّة.
وقالت الكاتبة الصحافيّة المختصّة في الشأن السودانيّ صباح موسى خلال حديث لـ"المونيتور": "إنّ مصر بدأت بالتعاون مع السودان الجديد من باب إرساء الأمن والسلام لضمان توقيف أيّ حروب أهليّة وإنهاء حالة التوتّر والقلق الأمنيّ بين الولايات السودانيّة".
ورأت أنّ "رعاية التفاوض بين حركات مسلّحة لكلّ منها مصالحها ليست مسألة سهلة، لكنّها تحتاج إلى خبرات ومهارات ديبلوماسيّة وأمنيّة قويّة، خصوصاً أنّ من بين الخيارات المطروحة تسريح بعض القوّات المسلّحة أو إدماجها في الجيش السودانيّ الوطنيّ. وهنا، يحتاج الأمر إلى ترتيبات معقّدة لاختلاف العقيدة بين الجيش الوطنيّ وجيوش الحركات المسلّحة التي تعتمد في تدريباتها على حروب العصابات والكرّ والفرّ"، وقالت: "إنّ نتائج الاجتماعات الأخيرة كانت بمثابة وضع النقاط على الحروف للاستعداد لبدء التفاوض على رؤية موحّدة للسلام تجتمع عليها كلّ الحركات المدنيّة والمسلّحة".
كانت اجتماعات العين السخنة الذي حضره للمرة الأولى معظم الشخصيات والقوى المعارضة لنظام البشير، انتهت إلى الاتفاق على النقاط الرئيسية المدرجة على أجندة المفاوضات المقبلة لتحقيق السلام ، ومنها إصلاح القطاع الأمني وإعادة بناء الجيش الوطني ليضم القوات النظامية وقوات الكفاح المسلح في خدمة الشعب السوداني
وأكّدت صباح موسى "أهميّة التنسيق المصريّ مع الأطراف السودانيّة المختلفة لضمان الانسجام في الرؤى والمواقف، ليس في ملفّات التعاون الثنائيّ مثل الاقتصاد والأمن والتجارة، ولكن في ملف التعاون الإقليميّ بخاصّة في حوض النيل وأمن البحر الأحمر، مشيرة إلى الاختلافات في هوى واتّجاهات بعض الشخصيّات القياديّة الجديدة في السودان تجاه الدول المحيطة سواء أكان في الإقليم العربيّ أم الإفريقيّ"، وقالت: "حتّى الآن، لم تتحدّد اتّجاهات رئيس الوزراء السودانيّ عبد الله حمدوك السياسيّة، فرغم كون القاهرة من بين العواصم الأول التي زارها في 18 أيلول/سبتمبر، بعد تولية المسؤوليّة وقبيل حضوره اجتماعات الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في نيويورك، إلاّ أنّه لا يخفي تأثّره الشديد بإثيوبيا والتجربة الإثيوبيّة في النهضة، وهو ما أظهره في حديثه الإعلاميّ الأوّل في السودان، الأمر الذي يثير تساؤلات عن موقف السودان في ملف مياه النيل، وهو أكثر الملفّات حساسيّة بالنّسبة إلى القاهرة".
وتأتي تحرّكات القاهرة من بين وسطاء إقليميّين آخرين، أبرزهم: جنوب السودان والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة وإثيوبيا، وتحاول مصر توحيد المساعي الإقليميّة للخروج بنتائج موحّدة لحلّ المشاكل الأمنيّة العالقة.
وقال القياديّ في الجبهة الثوريّة ياسر عرمان خلال حديث لـ"المونيتور"، على هامش حضوره الاجتماعات الأخيرة في القاهرة: "هناك رغبات إقليميّة من بلدان عدّة من جوار السودان والمحيط الإقليميّ للدفع بعمليّة السلام على الأراضي السودانيّة، لكن لا بدّ من إيجاد آليّة للتنسيق بين الجهود الدوليّة والإقليميّة حتّى لا يحدث تضارب وضرر من كثرة الوسطاء".
أضاف: "مصر بذلت مجهوداً للتنسيق بين جنوب السودان والسعوديّة والإمارات. ولدينا رغبة في أن يمتدّ هذا التنسيق إلى المجتمع الدوليّ".
وبجانب الملف الأمنيّ وجمع السلاح وتوحيد الحركات المسلّحة في جيش نظاميّ، توجد على أجندة الحكومة السودانيّة أولويّات عدّة، تتصدّرها محاولات رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإصلاح الأوضاع الاقتصاديّة برفع المستوى المعيشيّ للمواطن السودانيّ الذي عانى من انهيار الأوضاع الاقتصاديّة في السنوات الأخيرة لحكم البشير، وهي الملفّات التي أبدت القاهرة تعاوناً إيجابيّاً بشأنها، ففي المباحثات الرسميّة بين رئيسيّ الوزراء المصريّ والسودانيّ، كانت هناك وعود مصريّة عدّة بمساندة السودان اقتصاديّاً وديبلوماسيّاً.
وقال مسؤول ديبلوماسيّ على اطّلاع بالعلاقات المصريّة - السودانيّة في حديث لـ"المونيتور": "إنّ التنسيق مع السودان الآن يأخذ جانباً كبيراً من العمل الديبلوماسيّ المصريّ باعتباره أهمّ الملفّات على قائمة السياسة الخارجيّة المصريّة تأميناً للمصالح المصريّة في الجوار الجنوبيّ ومياه النيل".
أضاف المسؤول: "إنّ كسب مواقف واضحة وصريحة من النظام السودانيّ لدعم مواقف القاهرة في ملف مياه النيل، بخاصّة الموقف التفاوضيّ مع إثيوبيا بشأن ملء سدّ النهضة وتشغيله، أهمّ ما تطمح إليه مصر الآن، بعد أن كانت مواقف السودان موالية لإثيوبيا ضدّ المصالح المصريّة طوال فترات التفاوض السابقة منذ توقيع اتفاق المبادئ حول سدّ النهضة في آذار/مارس من عام 2015، والتي كانت ضمن أسباب تباطؤ وتعطيل التوصّل إلى اتفاقات حتّى الآن".
ومع التحرّكات التي تستهدف استقطاب السودان المواقف المصريّة، لا تزال الحكومة السودانيّة الجديدة برئاسة عبد الله حمدوك تتحسّس طريقاً لعلاقات خارجيّة متّزنة بعيداً عمّا وصفه حمدوك في حديثه التلفزيونيّ الأوّل عقب تولّيه السلطة بـ"حرب المحاور الإقليميّة"، إذ قال: "إنّ القوى الخارجيّة أصبح لها دور رئيسيّ في الشأن السودانيّ الآن، حتّى الاتفاق السياسيّ والوثيقة الدستوريّة تمّا بوساطة خارجيّة. نحن نشيد بدور الأشقّاء ومساعدتهم، لكن بعض التدخّلات تلقي بتعقيدات على المشهد السياسيّ".
كما قال في حديثه عن السياسة الخارجيّة للسودان: "نطمح إلى تعاون إقليميّ للخروج من العزلة، لكن ستتمّ إدارة السياسة الخارجيّة بمنطق المصلحة المشتركة".
وتبقى على عاتق مصر مهامّ ثقيلة بتكثيف جهودها لتحقيق استقرار أمنيّ يضمن حماية محيطها الجنوبيّ وتأمينه من سيطرة الحركات المسلّحة، بخاصّة ذات التوجّهات الإسلاميّة، وربط الحكومة السودانيّة بمصالح مشتركة تضمن لمصر حماية مصالحها في مياه النيل، وهذا الملف أصبح شائكاً وأكثر حساسيّة لدى مصر بعد فشل المفاوضات مع إثيوبيا حول ملء سدّ النهضة وتشغيله.