الرباط - في 16 تشرين الأوّل/أكتوبر، أصدر العاهل المغربيّ عفواً ملكيّاً عن الصحافيّة هاجر الريسوني المسجونة بتهمتيّ "الإجهاض السريّ" و"القيام بعلاقة خارج إطار الزواج". ونفت هاجر الريسوني التّهم الموجّهة إليها، معتبرة إيّاها "باطلة"، مؤكّدة أنّها لم تقمّ بعمليّة الإجهاض، ولم "تقابل قطّ الطبيب صاحب الخبرة، الذي اتّهمها".
وعن التّهمة الثانية، أفاد محامي المتهمة سعد السهلي بأنّها "تزوّجت عن طريق قراءة الفاتحة، في انتظار استكمال الإجراء القانونيّ لمراسيم الزواج". كما أن إجراءات توثيقه ماطلت بسبب جنسيّة خطيبها السودانيّة.
وفي 30 أيلول/سبتمبر الماضي، حكمت محكمة الاستئناف بالرباط على الريسوني و خطيبها الناشط الحقوقي رفعت الأمين بالسجن لمدّة عام. كما أصدرت أحكاماً في حق طبيب النساء و التوليد الذي اتهم بإجراء عملية الإجهاض وممرض المختص بالتخدير، وكاتبة (مساعدة) الطبيب.
ورأى مدافعو الريسوني من محامين و نشطاء و متابعين لقضيتها أنّ التّهم الموجّهة إليها جاءت كـ"انتقام" منها بسبب موادّها الصحافيّة المنشورة بصحيفة "أخبار اليوم"،إذ سلّطت الضوء فيها على أحداث حراك الريف وملفّات الفساد.
قضيّة الريسوني أرخت بظلالها في المغرب وطرحت نقاشاً متجدّداً وحامياً حول القوانين التي تجرّم الحريّات الفرديّة، وتنامت أصوات تدعو إلى إلغائها بشكل تامّ في بنود القانون الجنائيّ.
وتنصّ الفصول 489 و490 و491 و222 و220 من القانون الجنائيّ المغربيّ على تجريم المثليّة الجنسيّة والعلاقات الجنسيّة خارج إطار الزواج والخيانة الزوجيّة، وأيضاً الإفطار العلنيّ في رمضان، وحريّة المعتقد والدين بعقوبات حبسيّة وغرامات ماليّة.
وأُثِير الموضوع بشكل لافت على صفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ، "خارجة على القانون"، هي إحداها، إذ تدعو إلى تعزيز الحريّات الفرديّة في المغرب وإلغاء التشريعات التي تجرّمها.
وأطلق مؤسّسو الصفحة عريضة يطالبون صنّاع القرار بما وصفوه "امتلاك الشجاعة في فتح نقاش وطنيّ حول الحريّات الفرديّة، باعتباره ضرورة اليوم، وليس ترفاً فكريّاً".
وفي السياق ذاته،أعلن النائب البرلمانيّ عن تكتّل "فيدراليّة اليسار الديمقراطيّ" المُعَارض عمر بلافريج عبر مقطع مصور(بودكاست) يوم 27 سبتمبر الماضي عن تقديمه مقترح في مجلس النوّاب يقضي بإلغاء الفصول 489 و490 و491، التي تجرّم العلاقات خارج إطار الزواج والمثليّة الجنسيّة والخيانة الزوجيّة.
وفي حديث لـ"المونيتور، قال عمر بلافريج "أنا مع ضمان الحريّات الفرديّة للراشدين باعتبارهم مواطنين، كما أنّها معترف بها في العالم، وهذا لا يعني أنّنا ضدّ أخلاقيّات المجتمع، كما يظنّ بعض المنتسبين إلى التيّارات الأخرى، فمثلاً نحن مع عقوبة الإخلال بالحياء العام. ودعوتنا إلى إقرار هذه الحريّات، لا تدعو إلى ممارسة الجنس بشكل فوضويّ، بل في إطار رضائيّ يحميه القانون ويعترف به المجتمع، فمشكلة المغرب هي عدم احترام القانون، الذي من المفروض أن يلائم التحوّلات السوسيولوجيّة للمجتمع".
وعن مطالبته بإلغاء تجريم الخيانة الزوجيّة، قال بلافريج: "مبدئيّاً، أنا ضدّ الخيانة الزوجيّة. لقد طالبت عبر مقترحي في مجلس النوّاب بعدم تجريمها في إطار القانون الجنائيّ، فعقوباته الحبسيّة بإمكانها أن تشرّد عائلة بأكملها. ولذلك، أرى أن تسوّى مثل هذه القضايا في إطار مدوّنة الأسرة أو مصالحة وديّة بين الزوجين أو حتّى الطلاق أو مطالبة أحد الطرفين بتعويض ماديّ".
بيد أنّ مقترح بلافريج قوبل برفض وإدانة واسعين من أصوات توصف بأنّها "محافظة" و"متشدّدة"، خصوصاً من قبل أحد الدعاة الإسلاميّين، إذ قال في حديث موجّه إليه عبر مقطع مصوّر: "لو كان عمر رضي الله عنه حيّاً لاقْتَصَّ مِنْكَ" (أَيّ لَأَخذ القِصَاصَ منك)، هذا الكلام اعتبره بلافريج ومناصروه "تحريضاً" على قتله وضرباً من "الإرهاب" و"التكفير" له، لكنّ الداعية الإسلاميّ نفى أن يكون المقصود من خطابه تكفيراً لبلافريج، أو حتّى استهدافاً لحياته.
وكان رئيس الاتّحاد العالميّ للمسلمين أحمد الريسوني دافع عن الحريّات الفرديّة، لكن شرط "أن تخضع للقدر الضروريّ من الضبط والتقييد والترشيد".
بيد أنّ أحمد الريسوني أثار موجة استنكار، بعد أن وصف النساء الداعيات إلى الحريّات الفرديّة بـ"الخاسرات"،و كتب في مقاله المنشور على موقعه الشخصي، يوم 19 أكتوبر ما يلي: "لقد رأينا مؤخّراً بعض النسوة الخاسرات يرفعن لافتات تصرّح بأنهنّ يمارسن الجنس الحرام ويرتكبن الإجهاض الحرام. هكذا لَقَنُوهُنَّ.. مع أنّ الظاهر من سوء حالهنّ أنهنّ لن يجدن إلى الجنس سبيلاً، لا حلاله ولا حرامه".
من جهتها، اعتبرت النائبة البرلمانيّة والقياديّة في حزب الاتحاد الاشتراكيّ في تدوينة فيسبوكيّة أنّ ما كتبه الريسوني "ينمّ عن منطلقات متزمّتة" وطعن في "كرامة المشاركات في الحملات التضامنيّة مع ابنة أخيه هاجر الريسوني".
أمّا هاجر الريسوني فتبرّأت من رأي عمّها أحمد الريسوني ووصفته بـ"الأصوليّ"، مؤكّدة أنّ "مواقفه من مسألة الحريّات لن تخرج عن الإطار النظريّ والإيديولوجيّ الذي يتأطّر به، سواء أكانت هي في السجن أم خارجه".
"للأسف، جدل اليوم حول الحريّات الفرديّة يطغى عليه الافتعال والانتقائيّة"، هذا ما قاله محمّد الهلاليّ وهو القياديّ في "حركة التوحيد والإصلاح" (التنظيم الدعويّ التابع لحزب العدالة والتنمية ذي المرجعيّة الإسلاميّة)، موضحاً في حديث لـ"المونيتور" أنّ "افتعال هذا الجدل" يكمن في أنّه "يستغلّ آلام ضحيّة" (في إشارة إلى هاجر الريسوني).
ورأى محمّد الهلالي أنّ هذا الجدل هو مجرّد "محاولات يائسة" لتقسيم المجتمع إلى فريقين بين من يعتبر الحريّات العامّة والقضايا الكبرى أولويّة مثل محاربة الفساد والريع والتوزيع العادل للثروات، وفريق ثانٍ يركّز على الحريّات الفرديّة بشكل وصفها المتحدّث، بأنّها "مُؤَدْلَجَة وتدعو إلى "الإباحيّة".
وفي المقابل، أمل الهلالي في أن تصل النخب إلى حال من التوافق،ويشدد على ضمان توسيع ممارسة الحريات الفردية و العامة بنفس القدر، لكن دون تعارضهما مع مقاصد الشريعة الاسلامية والهوية المغربية.
وبنبرة وصفت بـ"المعتدلة"، دعا رئيس "حركة التوحيد والإصلاح" عبد الرحيم الشيخي إلى مراجعة التشريعات المجرّمة للحريّات الفرديّة،مؤكدا بأنّ المُدَانَ في الإسلام هو الجماع، "وأن مادون ذلك من المصافحة و اللمس و القبل فهو ليس مُجَرَّماً"" كما رأى أنّ الإشكال في هذه الحريّات يكمن في توظيفها لتصفية الحسابات السياسيّة.
بدورها، أكّدت النائبة البرلمانيّة عن حزب "العدالة والتنمية" آمنة ماء العينين أنّ الفصول المُجَرِّمَة للحريّات الفرديّة في المغرب "ليست من الدين في شيء"، مطالبة الدولة بـ"رفع يدها عن التدخّل في حياة الناس الخاصّة عبر التعقّب والتجسّس"، داعية حزبها إلى"فتح نقاش داخليّ هادئ ومؤطّر حول الحريّات الفرديّة، بعيداً عن الاتّهامات الجاهزة والضعيفة".
ومن المحتمل أن تتمّ مناقشة الفصول المجرّمة للحريّات الفرديّة في القانون الجنائيّ مع بداية كانون الأوّل/ديسمبر المقبل، وفقاً لما أفاد به بلافريج خلال حديث لـ"المونيتور".
وكانت الحكومة قد صادقت خلال عام 2016 على مشروع قانون تقنين الإجهاض، إلاّ أنّه ما زال عالقاً في لجنة العدل والتشريع بالبرلمان من دون الحسم فيه مجتمعيّاً وسياسيّاً.