في الوقت الذي تراجعت فيه وتيرة الاضطرابات الأخيرة في إيران، يستمر المحلّلون والمراقبون المحلّيون منهم والأجانب في مناقشة مختلف جوانبها — بما في ذلك أسبابها والنتائج المترتبة عليها. وتشكّل "الزاوية المتعلّقة بالسياسة الخارجيّة" كما يشير إليها البعض، جانبًا مهمًّا من المناقشات التي تدور حول الأسباب التي تقف وراء الاحتجاجات.
وذلك لأن الهتافات التي سُمعت خلال الاحتجاجات في طهران وغيرها من المدن كـ "دعوا سوريا وشأنها، فكروا بنا" خير تعبير عن الاستياء الشعبي الإيراني من سياسة البلد الخارجية، وعلى الأخص من مستوى تدخّله في الأزمات الإقليمية. وبناءً عليه، يدعوا الإيرانيون حكومتهم إلى تبني وجهة نظر موجّهة إلى الداخل وإلى استخدام مواردها المالية لتلبية احتياجاتهم الاقتصادية.
وقد دفع ذلك ببعض المراقبين والسياسيين في العالم إلى التحدّث عن إمكانية أو حتى وجوب تحقيق تبدّل في السياسة الخارجية الإيرانية، وعلى الأخص الشرق أوسطيّة. كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد عبّر بشكل لافت عن هذه الفكرة، وصوّر الاستياء المفترض للشعب الإيراني من السياسة الخارجية [الإيرانية] على أنه من أبرز الدوافع وراء الاحتجاجات. كما اقتنص بعض المسؤولين العرب الفرصة وذلك للتنديد بالسياسة الإقليمية الإيرانية. وفي هذا الاطار، أثيرت التكهنات حول النتائج المحتملة للاحتجاجات الأخيرة على السياسة الإقليمية الإيرانية وحول ما إن كانت ستدفع بإيران إلى التخفيف من مستوى تدخّلاتها في المنطقة.
وبصرف النظر عن مدى الاختلاف حول أكثر الشعارات المرتبطة بالسياسة الخارجية تطرّفًا، يمكن القول أنها لن تُحدث تغييرًا كبيرًا في السياسة الإقليمية أو حتى السياسة الخارجية لإيران، ولذلك أسبابه. ويمكن تحليله بالاستناد إلى تقويم للسياقات المحلية والدولية.
داخليًا، لا بدّ من الاشارة أولًا إلى امتناع الشخصيات الليبرالية أو الإصلاحية التي غالبًا ما تنتقد سلوك الجمهورية الإسلامية في الخارج عن دعم الشعارات المتعلّقة بالسياسة الخارجية لإيران أو الاحتجاجات بشكل عام، وذلك بسبب غياب أهداف واضحة وجدول أعمال صريح للاحتجاجات، ناهيك عن الإطار الفكري المحدد لها. والمفارقة هي أن إحدى الأسباب الرئيسية وراء هذا الامتناع على ما يبدو تكمن في المقارنة بين ما كان يحدث في إيران وبين تجارب مماثلة في المنطقة. فعندما بدأت الاحتجاجات تأخذ منحىً عنيفًا، ترافق ذلك مع قلق متزايد من احتمال أن يؤدي استمرار الاضطرابات على المنحى نفسه إلى انتشار الفوضى أو حتى أن يجعل من إيران "سوريا أخرى".
ثانيًا، يُجمع معظم المراقبين على أن التدخل الإيراني في النزاع السوري هو الأوسع والأكثر مجاهرة إقليميًا. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه لمّا كانت طبيعة النزاع معقّدة، ارتبط فعليًا بمشاعر دينية وقوميّة إيرانيّة — وعلى الأخص بالنظر إلى عدد الجنود الإيرانيين الذين خسروا حياتهم في القتال في سوريا. وبنًا عليه، ينظر الكثير من الشباب الإيراني لقائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني على أنه رمزٌ للوطنية والقوة الوطنية. فليس من السهل إذًا الحديث عن رأي عام موحد يعارض التدخّل الإقليمي لإيران بالمعنى الدقيق للعبارة.
ثالثًا، ينبغي الأخذ بالاعتبار أن القرارات المرتبطة بالمقاربة الايرانية الواسعة النطاق في الشرق الأوسط تُأخذ على أعلى المستويات داخل النظام السياسي للجمهورية الإسلامية، ولا يقتصر ذلك على السلطة التنفيذية فحسب والتي لها رأيها في هذه العملية. وفي الوقت الذي يُفهم فيه منطق الشكاوى الشعبية من الظروف الاقتصادية الصعبة، انّ الفكرة السائدة بين كبار المسؤولين الإيرانيين هي أن الأعداء الخارجيين — أي إسرائيل والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة — يشكّلون القوى الحقيقية التي تقف وراء تطرف الاحتجاجات. وبطبيعة الحال، يرى هؤلاء المسؤولون أنه لا بدّ لإيران المحافظة أو ربّما تقوية جبهاتها الإقليمية بهدف خلق رادع واستكمال ما يمكن اعتباره سياسة التوازن الخارجي.
أما في ما يخصّ البعد الدولي، فتجدر الإشارة إلى أن المشهد المتفتّت للتفاعلات الإقليمية في الشرق الأوسط قد ولّد ضغوطًا خارجية على الجمهورية الإسلامية لحثّها على تبديل سياستها بحيث لا تتجاوز حدًا معينًا. شهدت العلاقة بين طهران وأنقرة، باعتبارها أحد أبرز المنافسين الاقليميين لإيران، تقاربًا في العام الماضي من جهة. ومن جهة أخرى، باتت عملية استانا التي تهدف إلى المساعدة في إرساء السلام في سوريا مجالًا يسمح لإيران وتركيا بالعمل معًا على إحدى المسائل الإقليمية. وبالتالي، لم يكن الموقف التركي الداعم للحكومة الإيرانية بالأمر المفاجئ، إذ أعربت [أنقرة] عن قلقها تجاه العنف خلال الاحتجاجات.
وفي الوقت نفسه، وبسبب المحنة الدبلوماسية المستمرّة بين قطر من جهة والمملكة العربية السعودية وبعض الدول العربية الأخرى من جهة أخرى، باتت الدول العربية السنية عاجزة عن اعتماد موقف موحّد ضد الجمهورية الإسلامية. وأفادت تقارير أنه وبعكس الدول العربية الأخرى، أصدرت الحكومة القطرية تعليمات لوسائل الإعلام تقضي بعدم التعبير صراحة عن مواقفها تجاه الاضطرابات في إيران.
أما في الغرب، فقد ظهرت هوّة مشابهة في ما يخصّ ردة الفعل على الاضطرابات. ففي حين دعمت الولايات المتحدة الاحتجاجات، تجنّب الاتحاد الأوروبي اتخاذ أي موقف صارم ضد الجمهورية الإسلامية. إنّ القلق الأوروبي من أن تحاول إدارة ترامب استخدام الاحتجاجات كذريعة للانسحاب من الاتفاق النووي لعام 2015 كان وراء هذا الموقف المتواضع. ولأن اتخاذ هذه الخطوة يمكن أن يتسبب بانهيار للاتفاق التاريخي بشكل كامل، اعتمد الأوروبيين [موقفًا] حذرًا [لتفادي] المخاطرة بسنوات من الجهود الدبلوماسية المكثّفة المتعددة الأطراف، وهو تصرّف يكمن فهمه.
يشير باحثون في العلاقات الدولية إلى الفترة انتقالية التي طرأت على النظام الدولي خلال العقد الماضي والتي لعبت فيها القوى الناشئة دورًا أوسع في تحديد المعادلات العالمية والإقليمية. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى العلاقة الوثيقة التي تربط إيران بقوّتين ناشئتين وهما روسيا والصين. أما في الشرق الأوسط، فقد بات يبدو أن الدور الذي تلعبه روسيا، باعتبارها شريكة وثيقة لإيران في سوريا، يقف وراء حساسية روسيّة أكبر من أي وقت مضى تجاه أي عامل مزعزع للاستقرار في إيران وقد يشكّل تحدّيًا للخطط المشتركة بين الكرملين وطهران في المنطقة. والنتيجة واضحة: باتت إيران أكثر ثقة في سعيها إلى تحقيق أهدافها الثابتة في المنطق