في أسلوب درجت عليه القنوات التلفزيونية الرسمية، وقف مذيع شاب عند أحد الأرصفة في منطقة مزدحمة وراح يسأل المارّة عن رأيهم بموجة الاحتجاجات الأخيرة في إيران. أجابه رجل في الستينات من العمر بعينَين متعبتَين: "لديّ ثلاثة أولاد. هم أطباء ومهندسون. وجميعهم عاطلون عن العمل". وقال محارب قديم شارك في الحرب الإيرانية-العراقية بين 1980 و1988، بنبرة تحدٍّ وهو محاطٌ بحشد من الناس: "أحتاج إلى أدوية بسبب الإصابات التي تعرّضت لها خلال الحرب، لكنها غير مشمولة بنظام التأمين الصحي، ويقولون لي أن أشتريها من السوق السوداء. كيف لي أن أسدّد ثمنها؟ أعاني من مشكلة في ظهري، ويمكن أن أصبح مشلولاً في أية لحظة. لِمَن أعبّر عن وجعي ومعاناتي؟" في مقطع فيديو بإنتاج متقَن بثّته قناة "أفانت تي في" الإلكترونية التي انضمت حديثاً إلى المشهد الإعلامي المتطور في إيران، يروي عدد مطّرد من الأشخاص أنهم لم يعودوا قادرين على تأمين لقمة عيشهم في الاقتصاد الإيراني المتعثّر.
مقطع الفيديو الذي بثّته قناة "أفانت تي في" وانتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد خمسة أيام من اندلاع الاحتجاجات في إيران، والتي تمدّدت حتى الآن إلى عشرات المدن وكل المقاطعات تقريباً، يربط بتأنٍّ بين مجموعة مؤثِّرة من المقابلات مع أشخاص غير راضين عن الوضع الاقتصادي وسياسات الرئيس حسن روحاني. مع ندرة المعلومات المتوافرة عن قناة "أفانت تي في"، وعلى ضوء الجهود الحثيثة التي بذلها المنتجون في القناة لتصويرها بأنها محطّة مستقلة، الهدف من الفيديو هو أن يعبّر بطريقة شفّافة وحقيقية عن إرادة الشعب الإيراني. لكن العنصر الغائب بطريقة فاضحة في مقطع الفيديو هو انتقاد المؤسسة السياسية ككل، والذي هو من المواضيع الأساسية في التظاهرات الراهنة.
في الواقع، ليست قناة "أفانت تي في" مستقلّة على الإطلاق. لم يتمكّن موقع "المونيتور" من التواصل مع القيّمين عليها، غير أن اثنَين من المنتجين الإعلاميين المقرَّبين من النظام أكّدا أنها المثال الأحدث عن وسيلة إعلامية جديدة مدعومة من الحرس الثوري الإسلامي تسعى إلى تعزيز سرديّة المرشد الأعلى وتقديمها على السياسة الإيرانية.
على غرار الوسائل الإعلامية التي أنشئت إبان ظهور الحركة الخضراء التي أبصرت النور على خلفية الانتخابات الرئاسية السجالية في العام 2009، تنبثق قناة "أفانت تي في" من الحروب الإعلامية التي تستعر في صلب التعصّب الفئوي السياسي داخل وإيران وخارجها. بعد الاحتجاجات الواسعة النطاق في العام 2009، أدرك المنتجون الإعلاميون التابعون للنظام أنهم يواجهون أزمة شرعية. قال لي مدير إحدى القنوات الأساسية التابعة لشبكة الجمهورية الإسلامية الإيرانية للإرسال (IRIB) في العام 2010: "نعلم أننا خسرنا جزءاً كبيراً من جمهورنا لمصلحة قنوات فضائية خارجية تديرها جاليات إيرانية في المنفى. والشباب يتابعون المستجدّات ويحصلون على الترفيه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. لم يعد التلفزيون الرسمي هو الخيار. علينا استنباط أساليب جديدة للتأثير في السرديّة، وجعل الرواية تميل لمصلحتنا من جديد".
كان التكتيك الذي وضعه المنتجون الابتعاد عن المضمون المُعَدّ حصراً للتلفزيون الرسمي – الذي ينظر إليه الجمهور المحتمل، بصورة شبه تلقائية، بأنه دعاية للنظام – والانتقال نحو إنشاء استديوهات صغيرة للإنتاج تعمل على تطوير مضمون لا يمكن وصمه بسهولة بأنه موالٍ للنظام. تتلقّى هذه الاستديوهات التي أنشئت لهذا الغرض تحديداً، تمويلاً من الحرس الثوري الإيراني ومن الموازنة الثقافية للحكومة، لكنها تتعمّد أن تبقى صغيرة الحجم ومموَّهة بحيث لا يمكن التعرف على هويتها الحقيقية.
انطلقت قناة "أفانت تي في" في 12 كانون الأول/ديسمبر الماضي، بعد أيام من قيام روحاني بالكشف عن موازنته للسنة الإيرانية المقبلة (التي تبدأ في آذار/مارس)، وقد وجّهت انتقادات علنية "للمؤسسات الاحتيالية" لأنها تعيث خراباً في الاقتصاد الإيراني. وقد صوّب روحاني، في كلمة ألقاها أمام مجلس الشورى عن مشروع الموازنة المقترَح في العاشر من كانون الأول/ديسمبر، سهامه تحديداً ضد المؤسسات الثقافية التي يديرها المتشدّدون، والموازنات التي يتم تخصيصها منذ وقت طويل لرجال الدين. في الجوهر، انتقد روحاني بعض المؤسسات الإعلامية والثقافية التي أدّت دوراً أساسياً في التهجّم على الحركة الخضراء ونَعتِها بأنها مؤامرة خارجية، وفي التهجّم أيضاً على روحاني نفسه.
للمرة الأولى، سمّى روحاني، في معرض قيامه بالكشف عن تفاصيل جديدة في مشروعه للموازنة، مؤسسات الدولة المختلفة التي حصلت على أموال طائلة ودعم غير مشروط من النظام، ومنها مراكز ثقافية. وعزا هذه الخطوة إلى رغبة في تحقيق الشفافية، ومسعى لوقف الفساد في استخدام أموال الدولة. كان رد الفعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي الصحافة المحلية سريعاً وقاسياً. فقد شنّ الناس هجوماً على المراكز ورجال الدين المحافِظين والمتشدّدين لقيامهم بسحب كل هذه المبالغ من الصناديق الحكومية.
قال منتج في استديوهات الإنتاج المملوكة من النظام بعدما كشف روحاني عن موازنته الجديدة: "لم يكن بإمكاننا أن نسمح له بقطع شريان الحياة عنا"، مضيفاً: "يريد هو وأنصاره إسكاتنا عبر سحب التمويل منا. لكننا لن نسكت. سوف نبرهن له أن الناس لا يوافقونه الرأي".
صرّح روحاني في العاشر من كانون الأول/ديسمبر: "خمسة وعشرون في المئة من السوق المالية في أيدي ست مؤسسات احتيالية. وهذه المؤسسات تتدخّل، ساعة تشاء، في السوق المالية وسوق الذهب وسوق العقارات". أضاف أنه التقى المرشد الأعلى ليناقش معه كيف تتسبّب ممارسات هذه المؤسسات الاحتيالية في تدمير حياة ثلاثة إلى أربعة ملايين شخص. وناشد مجلس الشورى عدم الرضوخ لهذه المصالح الشخصية، قائلاً: "أتعرّض لضغوط من مختلف الجهات. لن تصدّقوا حجم الضغوط والرسائل التي أتلقّاها من مؤسسات الدولة كافة، ومفادها ’أنت ترتكب خطأ. لا تلاحق هؤلاء الأشخاص ومؤسساتهم‘".
الاحتجاجات التي بدأت في مشهد في 28 كانون الأول/ديسمبر الماضي جاءت رداً من المتشدّدين على روحاني على خلفية كلامه عن الموازنة وكذلك محاولاته الأخرى لكبح القوى المتشدّدة. تشير معظم التحاليل عن الأسباب خلف موجة الاحتجاجات المفاجئة إلى أنها تنبثق من المحاولات التي بذلها المتشدّدون لتنظيم تجمّعات مناهضة لروحاني على مشارف التجمّع الذي يُقام سنوياً للتعبير عن الولاء للنظام في 30 كانون الأول/ديسمبر، والذي أطلقه المرشد الأعلى في العام 2009 احتفالاً بذكرى القضاء على الحركة الخضراء. في الواقع، مشهد هي مسقط رأس ابراهيم رئيسي ومحمد قاليباف اللذين كانا من منافسي روحاني الأساسيين في الانتخابات الرئاسية في العام 2017. كان الهدف أن تُتوَّج التظاهرات بتجمّع حاشد في 30 كانون الأول/ديسمبر، لكن الرياح سارت بعكس ما تشتهيه سفن المتشدّدين، وهكذا بعدما نزل الناس إلى الشارع، بدأوا يطلقون شعارات ضد المرشد الأعلى والنظام ككل.
سرعان ما أدرك المنتج المذكور آنفاً وزملاؤه أنهم قد يخسرون مجدداً السيطرة على السرديّة في حال استمرّت في الاتجاه الذي بدا أنها تسلكه. وهكذا بدأت استديوهات الإنتاج المملوكة من النظام بتصوير مقاطع فيديو تسلّط الضوء على الهموم الاقتصادية وتنتقد أسلوب روحاني في الحكم. الهدف من هذه الفيديوهات الجديدة المشغولة بإتقان هو أن تبدو ذات طابع انتقادي، لكنها تساهم، في نهاية المطاف، في تعزيز الثقة بفضائل المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، وخصاله القيادية. وليست قناة "أفانت تي في" سوى المثال الأحدث عن تداعيات التعصّب الفئوي في الجمهورية الإسلامية والمعارضة للنظام على المشهد الإعلامي، والطرائق التي يتجلّيان بها.
قال روحاني في كلمته أمام مجلس الشورى: "سوف نكون محظوظين إذا تمكّنا من الحكم في مثل هذه الأجواء"، في إشارة إلى المخصّصات الواسعة التي تُمنَح في الموازنة إلى مراكز النفوذ غير الخاضعة للمساءلة. أضاف: "حتى لو حالفنا النجاح، لن تتمكّن الحكومة المقبلة من العمل".