أدّت إقامة عرض أزياء في فضاء مفتوح في منطقة العشّار في البصرة إلى غضب كبير في وسط رجال الدين والجماعات الإسلاميّة، حيث هاجم رجل دين في 1 تمّوز/يوليو أهالي العشّار لعدم وقوفهم لمنع العرض، معتبراً ذلك موقفاً مخزياً، منتقداً الدولة لحماية "هذه الدعارة"، حسب تعبيره.
ومن جهة أخرى، يكرّس إعلان الهيئة الإداريّة لنقابة الفنّانين في محافظة البصرة في 10 حزيران/يونيو 2019 إيقاف النشاطات الغنائيّة والموسيقيّة كافّة في المحافظة، على خلفيّة تهديدات بالقتل من جماعات متشدّدة، محاولات منع فعاليّات الموسيقى والغناء والتمثيل في مدن العراق من قبل جماعات دينيّة متشدّدة.
يفصح تأريخ هذه المحاولات عن حوادث سابقة، ففي محافظة كركوك في الشمال، يواجه أعضاء فرقة "دارك فانتوم" الموسيقيّة أيّاماً عصيبة، أثناء حفلاتهم أو حتّى في حياتهم اليوميّة العاديّة، وفق تصريح عضو في الفرقة في 5 أيلول/سبتمبر 2018 بقوله لوسائل إعلام: "تعرّضنا إلى الهجوم مرّات عدّة من قبل المساجد أو على الـ"فيسبوك"".
وفي 21 نيسان/أبريل 2019، أكّد حرفيّو صناعة الآلات الموسيقيّة المضايقات التي تعترض عملهم، وقال أحدهم: "المتديّنون لا يرضون بعملنا".
وقتل في 16 أيّار/مايو 2019 الفنّان الموسيقيّ فارس حسن وسط قضاء الكوفة في محافظة النجف الدينيّة، فيما يعتقد أنّ قانون قدسيّة النجف الذي يحرّم الموسيقى والغناء ومظاهر التبرّج هو السبب.
وعلى غرار النجف، فإنّ قانون قدسيّة كربلاء، وهي محافظة دينيّة مهمّة للشيعة، بدأ تنفيذه في شكل فعليّ في 18 كانون الأوّل/ديسمبر 2018، ويتضمّن منع الأغاني، ودخول السافرات إلى المدينة.
لا يستغرب المؤلّف الموسيقيّ في وزارة الثقافة العراقيّة سامي نسيم "الهجمة على الفنّ في المجتمعات التي تنشط فيها القوى الدينيّة"، مسترسلاً في حديثه إلى "المونيتور": "لقد حدث مثل هذا الأمر في الموصل حتّى قبل احتلالها من تنظيم "داعش" في عام 2004، عندما هدم تمثال الموسيقيّ الملّا عثمان الموصلي، وهددّت جهات متشدّدة، الموسيقيّين الموصليّين بقطع أصابع من يعزف على الآلات الموسيقيّة".
يقول نسيم: "لقد تحدّيت ذلك التهديد، وقدّمت عزفاً في مهرجان أبي تمّام للشعر في العام نفسه". ويرى أنّ "الردّ على
التضييق على حرّيّة الرأي، والفعاليّات الفنّيّة، هو في الإصرار على تنظيمها، عبر تفعيل وزارة الثقافة للمهرجانات الموسيقيّة وتكريس الوعي الفنّيّ، لأنّ ترك الساحة للقوى المتطرّفة سوف يؤدّي إلى فراغ فكريّ يسمح لتلك الجماعات بإيصال معتقدها الراديكاليّ إلى عقول الجيل الجديد".
ويحدّد نسيم الأماكن التي تتصاعد فيها أعمال تحريم الفنّ والموسيقي في "الأماكن الرخوة أمنيّاً، ممّا يتطلّب
من الدولة تفعيل الجهد الأمنيّ والاستخباريّ، لا سيّما في البصرة، والمناطق المتحرّرة من "داعش"".
يروي الباحث والموسيقيّ ومدير دار شمس للثقافة الموسيقيّة في بغداد ستّار الناصر لـ"المونيتور" تاريخاً من الانفتاح وتعدّد الثقافات في محافظة البصرة، فيقول: "منذ تأسيس الدولة العراقيّة، فضلاً عن حضارة العراق القديمة، مارس العراقيّون النشاط الفنّيّ، وكانت الموسيقى حاضرة بقوّة في المجتمع، والأغاني لها حضور في الحياة المدنيّة البصريّة في شكل واسع، كما أنّ أغلب العراقيّين يميّزون الأغنية البصريّة بسهولة في ألحانها وأشعارها ورقصاتها".
يتوقّع الناصر، بتفاؤل، "فشل محاولات القوى المحافظة في احتكار المشهد الثقافيّ لصالح أيديولوجيّتها، لأنّ الشعب العراقيّ، والبصراويّ في صورة خاصّة، يعشق الموسيقى والغناء، وفق تجربتنا نحن المعنيّون في الشأن الجماليّ والموسيغنائيّ".
يطالب الناصر الحكومة والبرلمان ووزارة الثقافة ونقابة الفنّانين والمنظّمات الإنسانيّة بـ"التحرّك لإيقاف هذه الأعمال العنيفة التي تنشر الثقافات المتخلفة والبدائيّة في المجتمع".
يرى الكاتب عمران العبيدي أنّ "الغرض من هذه التهديدات للفرق الموسيقيّة هو إيقاف الحركة الثقافيّة والفنّيّة"، معتبراً أنّ "هذه الجماعات غير قادرة على تنفيذ أجندتها داخل المجتمع البصريّ لأنّه يعشق الأدب والثقافة والفنّ والغناء، وهي سمات بارزة فيه".
يصف العبيدي البصرة بأنّها "مدينة فنّ"، قائلاً: "نظّم حفل في آذار/مارس الماضي على مسرح نقابة الفنّانين في البصرة وأقيم معرض تشكيليّ وآخر للخطّ وحفل غنائيّ وموسيقيّ. وتلك رسالة تفيد أنّه من غير الممكن، أن يفرض على المدينة، نمط حياتيّ، وفقاً لأجندات جهة معيّنة".
يتحدّث رئيس نقابة الفنّانين في العراق الدكتور جبّار جودي، لـ"المونيتور" عن "تضخيم لمحاولات منع النشاط الموسيقيّ والغنائيّ في العراق"، مشيراً إلى أنّ "الوضع الأمنيّ يستتبّ في البصرة ومدن العراق، وكلّما تعزّز الاستقرار، تعزّزت القوانين وأنظمة الدولة التي توفّر حرّيّة الرأي، وممارسة الفنون"، مشيراً إلى أنّ "الأوضاع المتّصلة بالنشاطات الفنّيّة في المناطق المحرّرة، إلى تحسّن في شكل واضح، وأنّ الحرّيّات بدأت ترسّخ جذورها".
وفي حين يؤكّد القاضي السابق والخبير القانونيّ علي التميمي لـ"المونيتور"، أنّ "هناك تحفّظاً كبيراً على الحفلات الموسيقيّة والغنائيّة، لا سيّما في المناطق المحافظة التي تحتوى على رموز دينيّة"، فإنّه يشير إلى أنّ "الدستور العراقيّ في المادّة 45 يؤكّد دور الدولة في تعزيز مؤسّسات المجتمع المدنيّ وحمايتها"، مشيراً إلى أنّ "التهديد يندرج تحت يافطة قانون مكافحة الإرهاب في المادّة 4 منه، لأنّه يؤدّي إلى الرعب والخوف وتهديد السلم المجتمعيّ".
يركّز المتحدّث باسم وزارة الداخليّة اللواء سعد معن، في حديثه إلى "المونيتور" على "ضرورة التمييز بين النشاطات الثقافيّة والفنّيّة، وبين النشاطات المشبوهة في بعض النوادي الليليّة التي ترصد إذا كانت مخالفة للقوانين"، مشيراً إلى أنّ
"أيّ إبلاغ عن أيّ مضايقة لنشاط فنّيّ أو ثقافيّ، تتعامل معه الوزارة بسرعة ودقّة عاليتين، منطلقة من حفاظها على النظام والقانون، من دون تأثير أيّ جهات أخرى على قراراتها".
يفيد الواقع الذي استقصاه "المونيتور" أنّ الحفلات الغنائيّة والموسيقيّة مستمرّة في العراق، وتتصاعد وتيرتها، وقد أبرزت ذلك تحقيقات استقصائيّة عالميّة أيضاً، فضلاً عن فيديوهات الواقع المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعيّ والـ"يوتيوب"، الأمر الذي يزيد من إصرار الجماعات الدينيّة والمتطرّفة على محاربتها، فيما لا يبدو ذلك أمراً سهلاً، بسبب طبيعة الثقافة العراقيّة المنفتحة والمتسامحة.