تزامن نشر صحيفة "نيويورك تايمز" وموقع "ذي إنترسبت" الإلكترونيّ، في 18 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2019، وثائق تبيّن حجم التدخّلات الإيرانيّة في العراق والصلات القويّة لشخصيّات عراقيّة بطهران، مع استمرار الاحتجاجات التي بدأت منذ الأوّل من تشرين الأوّل/أكتوبر من عام 2019 المطالبة بالإصلاح، فيما رفعت شعارات تندّد بالنفوذ الإيرانيّ في البلاد.
وذكرت الوثائق أيضاً أنّ "شخصيّات عراقيّة مهمّة لها صلات وثيقة بإيران"، الأمر الذي أثار ضجّة واسعة في الأوساط السياسيّة والاجتماعيّة العراقيّة، وهو أمر وصفه الأكاديميّ ورئيس تحرير صحيفة "الصباح" العراقيّة عبّاس عبّود في حديث لـ"المونيتور"، بـ"غير المستغرب، في فترة تتواصل فيه التظاهرات، ويتصاعد الصراع بين واشنطن وطهران في منطقة الشرق الأوسط"، معتبراً أنّ "الحكومة العراقيّة لم تنجح في إبعاد العراق عن الصراع الأميركيّ – الإيرانيّ، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها".
ورأى عبّاس عبّود أنّ "الحكومة العراقيّة لا تمتلك خيارات كثيرة للتعامل مع هذا الملف، لا سيّما أنّ الدخول الإيرانيّ جاء عبر بوّابة الجهد الدوليّ لمحاربة الاٍرهاب، وهو الباب ذاته، الذي دخلت منه واشنطن".
واعتبر أنّ "إيران نجحت في كسب الجولة واستثمرت تدخّلها سياسيّاً لأهميّة العراق بالنّسبة إليها، لكن ربّما يغيب عن إدراك الكثيرين أنّ هناك جولة ثانية، ربّما ستكون من نصيب واشنطن".
لم تثر وثائق الصحيفة الأميركيّة الجدل فقط، بل "الخلافات في المواقف بشأنها"، بحسب مستشار مركز التنمية الإعلاميّة في بغداد المحلّل السياسيّ واثق الجابري، الذي أشار خلال حديث لـ"المونيتور" إلى أنّ "تلك الخلافات هي بين المؤيّدين لواشنطن والمناصرين لطهران"، وقال: "لأجل ذلك، فإنّ على الحكومة العراقيّة الإسراع في التعامل الجديّ المهنيّ مع معلومات تقرير الصحيفة الأميركيّة، ويكون ذلك بواسطة تحرّك السلطة والقضاء للتأكّد من المعلومات".
غير أنّ واثق الجابري لا يستبعد صحّة المعلومات، "في ظلّ الفساد الإداريّ والسياسيّ الذي أدّى إلى ولاءات خارجيّة لدوافع شخصيّة وحزبيّة".
ولكي لا يستغلّ التقرير بطريقة خاطئة ومسيّسة، اقترح الجابري "إجراءات قانونيّة وسياسيّة وتنفيذيّة لكشف الحقائق".
واعتبر المكتب الإعلاميّ للسياسيّ العراقيّ باقر الزبيدي في اتّصال أجراه معه "المونيتور" أنّ "الوثائق التي نشرتها الصحيفة الأميركيّة ليست رسميّة"، واصفاً إيّاها بـ"الحبر على الورق"، مشيراً إلى "أنّها لم تبن على حقائق، بل مجرّد تسريبات من مصادر مجهولة، ربما تتقصّد الزبيدي شخصيّاً، للتسقيط السياسيّ".
وعن تفاصيل الاتهامات، قال المكتب: "إنّ ما حصل في الحقبة التي كان فيها الزبيدي وزيراً للنقل، هو نقل زوّار عراقيّين، إلى العتبات المقدّسة في سوريا ونقل مساعدات إلى الشعب السوريّ، عبر قنوات رسمية".
وكشف المكتب الإعلاميّ عن أنّ "مراسل الصحيفة كان قد اتّصل بالمكتب، مستفسراً عن حقيقة التسريبات، وتمّ تزويده بالحقائق في 14 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2019، ومنها أنّ اتفاقيّة عبور الطائرات عبر الأجواء العراقيّة تمّت قبل تسلّم الزبيدي الوزارة، وكانت تخضع للتفتيش الأميركيّ بشكل دوريّ، وكانت تنقل المساعدات إلى الشعب السوريّ، وهو ما نشرته الصحيفة في تقريرها، لكن وسائل الإعلام نقلت التقرير من دون نشر ردّ الزبيدي على المراسل".
وعن ورود اسم رئيس الوزراء العراقيّ السابق ورئيس "ائتلاف النصر" حيدر العبادي في التقرير، قال القياديّ في "ائتلاف النصر" علي السنيد لـ"المونيتور": "لا وثيقة رسميّة، سواء أكانت أميركيّة أم إيرانيّة، يمكنها أن تبرهن عن مزاعم تبعيّة العبادي لطهران".
وأشار إلى أنّ "العبادي الذي نجح في الحرب على الإرهاب، من الطبيعيّ أن ينسّق مع الجهات التي يمكن أن تساعد بلده".
كما نفى مكتب رئيس البرلمان السابق سليم الجبّوري في اتّصال أجراه معه "المونيتور"، "العلم باتّصالات محسوبين
على الجبّوري بإيران"، معتبراً أنّ "التقرير الأميركيّ يتقصّد التأثير على الشارع العراقيّ الملتهب".
وعن مدى نجاعة الوثائق في التأثير على الوضع العراقيّ، رأت مستشارة رابطة المصارف العراقيّة والمستشارة الاقتصاديّة في الحكومة السابقة سلام سميسم خلال حديث لـ"المونيتور" أنّ "أهميّة الوثائق ليست في أسماء الشخصيّات لأنّ ذلك معروف للكثيرين، لكنّ تأثيرها يكمن في توقيت النشر مع التظاهرات الواسعة التي رفعت شعارات ضدّ الوجود الإيرانيّ تحديداً في العراق".
وأوردت سلام سميسم محوراً آخر في خطورة الوثائق كونها "تتزامن أيضاً مع التظاهرات التي تشهدها المدن الإيرانيّة، الأمر الذي يشكّل ضغطاً كبيراً على النظام"، معتبرة أنّ "المعلومات رسّخت مفهوم الورقة المحروقة للشخصيّات العراقيّة المتنفّذة منذ عام 2003، التي يثور الشعب ضدّها، باعتبارها تنتمي إلى الدولة العميقة، التي تدار من قبل إيران في العراق".
التداعيات القانونيّة لمعلومات الصحيفة الأميركيّة، وفق القاضي السابق والخبير القانونيّ علي التميمي خلال حديثه لـ"المونيتور"، "تنفتح على احتمالين، الأوّل أنّ عقوبة الإعدام تنتظر كلّ من يتخابر مع دولة أجنبيّة وفق المادّتين 158 و164 من قانون العقوبات العراقيّ، الذي ينصّ على تلك العقوبة لكلّ من يتخابر ويؤثّر بشكل خطير على الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة في البلاد".
وتوقّع علي التميمي "أنّ التقرير اذا ما أُخِذ على محمل الجدّ من قبل الحكومة العراقيّة، فإنّ الادعاء العام سوف يتبنّاه، للتحقيق مع الشخصيّات المشتبه بها، وفق القانون رقم 9 من عام 2017".
على الصعيد الخارجيّ، توقّع التميمي أن "تلجأ واشنطن إلى تجميد أموال هؤلاء الأشخاص وتمنع دخولهم إلى الولايات المتّحدة، وربّما تلجأ إلى مجلس الأمن لإعادة العراق إلى الفصل السابع بسبب ملفّات تتعلّق بالفساد وحقوق الإنسان".
من المنطقيّ أنّ الشخصيّات والقوى السياسيّة التي أوردت الوثائق أسماءها، تنكر ذلك، إذ نفى النائب قتيبة الجبّوري (سنيّ) المعلومات عن تعامله مع إيران، لكنّ كلّ هذا النفي لا يلغي حقيقة النفوذ الإيرانيّ الواسع على مركز القرار السياسيّ والأمنيّ، وهو أمر يدركه الشعب العراقيّ الذي رفع الشعارات ضدّ هذا النفوذ في الكثير من مدن الوسط والجنوب.