يحمل العديد من المتظاهرين في بغداد والمدن العراقية الجنوبية الأخرى صوراً للقائد السابق لجهاز مكافحة الإرهاب عبد الوهاب السعدي الذي أقاله رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي من منصبه في أواخر سبتمبر. ينظر إليه المحتجون على أنه بطل وطني فاز في المعركة ضد الدولة الإسلامية والآن ، بدلاً من مكافأته ، يعاقبه عبد المهدي. كما رشحه كثيرون آخرون لمنصب رئيس الوزراء ، مطالبين عبد المهدي بمغادرة المنصب.
خرج رئيس الحكومة العراقيّة عادل عبد المهدي في 29 أيلول/سبتمبر المنصرم، بتصريحات اعتبرت "غريبة"، عندما سئل عن إمكانيّة عودته عن قرار نقل الفريق الركن عبد الوهّاب الساعدي من جهاز مكافحة الإرهاب إلى وزارة الدفاع العراقيّة، إذ قال: "إنّ ضباطاً يرتادون السفارات الأجنبيّة، هذا غير مسموح".
وسخر مدوّنون على مواقع التواصل الاجتماعيّ من تصريحات عادل عبد المهدي المشابهة لتلك التصريحات التي تطلق بالضدّ من صحافيّين ونشطاء في المجتمع المدنيّ عندما يُتّهمون بـ"العمالة لسفارات أجنبيّة"، تحديداً الأميركيّة والبريطانيّة.
وكان عبد الوهّاب الساعدي، الذي كان يشغل منصب قائد العمليّات في جهاز مكافحة الإرهاب، والرجل الثاني في الجهاز، نقل في 27 أيلول/سبتمبر المنصرم، إلى مكان يعرف بـ"الأمرة" في وزارة الدفاع العراقيّة، ويعتبر هذا المكان "عقوبة" للعسكريّين الذين ينقلون إليه، حيث يبقى فيه من دون مهام أو واجبات، مجرّد موظّف يواظب على الدوام الرسميّ في مكتبه.
وقال الساعدي في تصريحات صحافيّة عن سبب نقله: "إنّ رئيس جهاز مكافحة الإرهاب الفريق الأوّل الركن طالب شغاتي هو مـن تقدّم بطلب نقله إلى رئيس الحكومة عادل عبد المهدي بعد اجتماع مجلس الأمن الوطنيّ قبل أيّام".
أضاف: "يبدو أنّ هناك اتفاقاً في الخفاء على تغيير القادة، وهذا الأسلوب لا يتناسب مع التضحيات التي قدّمتها القوّات المسلّحة في الحرب ضدّ تنظيم داعش. لم أكن أرغب في تنفيذ الأمر الحكوميّ المتمثّل بالالتحاق في إحدى الدوائر التابعة لوزارة الدفاع، وفضّلت الإحالة على التقاعد، رغم عدم بلوغي السنّ القانونيّة".
حديث الساعدي يؤشّر على وجود صراع داخل جهاز مكافحة الإرهاب بينه وقائده طالب شغاتي، لكن لا يبدو أنّ هذا العامل يكفي لنقله إلى مكان يحجّمه وينهي على الأقلّ تواجده الميدانيّ العسكريّ، فثمّة عوامل أخرى تتعلّق ببروزه وتفوّقه شعبيّاً على جميع القادة العسكريّين وقادة الحشد الشعبيّ أيضاً.
وقال كبير الباحثين في مركز الدراسات الإقليميّة بالجامعة الأميركيّة بالسليمانيّة رحمن الجبّوري: "في دولة تحكمها السياسة والتوافقات السياسيّة، فأيّ قرار لا بدّ أن تكون له خلفيّة سياسيّة، وقضيّة الساعدي جزء منها سياسة المحاور الموجودة في البلد، فهو ضحيّة للطرفين وضحيّة لنفسه لأنّه اعتمد على وجود دعم سياسيّ له".
أضاف: "هناك من يريد إظهار جهاز مكافحة الإرهاب على أنّه مؤسّسة منخورة من الداخل وتنازعها القيادات من الداخل، وهذا سيسمح للآخرين بالتحوّل إلى مهاجمة الجهاز كونه القوّة القريبة من الدولة والمحور الأميركيّ".
وبعد يومين على رفضه قرار القائد العام للقوّات المسلّحة العراقيّة عادل عبد المهدي بنقله من جهاز مكافحة الإرهاب إلى وزارة الدفاع، ظهر الساعدي في صورة مع وزير الدفاع نجاح الشمري، تأكيداً لبدء مهامّ عمله في الوزارة التي نُقل إليها "مُجبراً".
جهاز مكافحة الإرهاب لا يرتبط بوزارة الدفاع، وله قانونه الخاص، ومعروف أنّه مؤسّسة تأسّست على يدّ القوّات الأميركيّة وبدعم منها، وخاض قادتها ومقاتلوها تدريبات على يدّ الأميركيّين. وفي المعارك الأخيرة ضدّ تنظيم "داعش"، كانت قرارات الجهاز غير مرتبطة أبداً بقرارات بقيّة القطاعات، ولم يطّلع على خططه غير قادته.
وتعتبر الولايات المتّحدة الأميركيّة جهاز مكافحة الإرهاب، "قوّة مستقلّة" مقرّبة منها، لكن يبدو أنّ إيران تعمل على التغلغل داخل هذه القوّة، أو أنّها حاولت ذلك، وهو ما يعتقده مسؤول عراقيّ، لم يكشف هويّته، صرّح في 28 أيلول/سبتمبر لوكالة "فرانس برس" قائلاً: "إنّ قياديّين لفصيلين في الحشد الشعبيّ مارسا ضغوطاً لتنحية قائد قوّات مكافحة الإرهاب الفريق عبد الوهّاب الساعدي".
أضاف هذا المسؤول: "إنّ الفكرة الأساسيّة هي إبعاد الساعدي والإتيان بشخصيّة مقرّبة من إيران. وبالتّالي، لن تعود قوّات مكافحة الإرهاب عقبة لتلك الفصائل".
وتتطابق هذه التصريحات مع ما قاله مقرّب من الساعدي لـ"المونيتور": "إنّ قضيّة نقل الساعدي ليست من الداخل العراقيّ، فهناك ضغوط مورست من قبل إيران وموالين لها، فالساعدي سحب منهم الرمزيّة العسكريّة وصار لديه جمهور كبير".
وتفيد معلومات حصل عليها "المونيتور" من داخل جهاز مكافحة الإرهاب، بأنّ عبد المهدي أطلع شغاتي ورجال دين في النّجف - لم يسمّهم- وقيادات سياسيّة، على قرار نقل الساعدي قبل أن يعلنه للإعلام.
لم يمرّ قرار نقل الساعدي بشكل طبيعيّ، إذ خرجت تظاهرات مؤيّدة له في الموصل. كما أنّ مواقع التواصل الاجتماعيّ في العراق "اشتعلت" رافضة قرار عبد المهدي القاضي بنقله، ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، فالكتل السياسيّة بغالبيّتها أعلنت موقفها الرافض للقرار.
وفي 27 أيلول/سبتمبر، غرّد رئيس الحكومة العراقيّة السابق حيدر العبادي على "تويتر" قائلاً: "ما هكذا تكافئ الدولة مقاتليها الذين دافعوا عن الوطن، بالتأكيد هناك سياقات لتغيير أو تدوير المواقع العسكريّة والأمنيّة، ولكن يجب أن تكون على أساس المهنيّة وعدم التفريط بمن قدّموا للشعب والوطن في الأيّام الصعبة .هل وصل بيع المناصب إلى المؤسّسة العسكريّة والأمنيّة؟".
من جهته، قال المحلّل السياسيّ العراقيّ نجم القصّاب: "إنّ إيران تحاول إضعاف المؤسّسة العسكريّة العراقيّة ونقل تجربة الحرس الثوريّ الإيرانيّ إلى العراق من خلال تهميش القادة العسكريّين المهنيّين وإقصائهم، وقضيّة عبد الوهّاب الساعدي دفع باتّجاهها مقرّبون وموالون من إيران".
في المحصّلة، يبدو أنّ هناك قصّة أكبر من تلك التي ظهرت في الإعلام وما أسماها عبد المهدي بـ"زيارة سفارات الدول"، وتنحسر هذه القصّة في جهاز مكافحة الإرهاب حصراً، الذي يريد الحفاظ على استقلاليّته وقدرته العسكريّة النخبويّة كأفضل قوّة قتاليّة عراقيّة.