الانقلاب المفاجئ للزعيم الشيعيّ مقتدى الصدر على حركة الاحتجاجات الشعبيّة قبيل تكليف محمّد توفيق علاوي تشكيل الحكومة الجديدة، وضع تحالفه "التاريخيّ" مع المدنيّين أمام لحظة الحقيقة، فالمنافع المتبادلة بين الطرفين اصطدمت على ما يبدو بحراك الجماهير المطالبة بالتغيير الجذريّ.
وكان الصدر أمر أتباعه بالانسحاب من الساحات، في 25 كانون الثاني/يناير الماضي، احتجاجاً على عدم مشاركة المعتصمين بساحة التحرير في التظاهرة التي دعا إليها لإخراج القوّات الأميركيّة من البلاد، لكنّه عاد وأمرهم مرّة أخرى بدخول الساحات قبيل تكليف محمّد توفيق علاوي رئاسة الوزراء في الأوّل من الشهر الجاري، الأمر الذي اقترن بنشاط عنيف لأصحاب "القبّعات الزرق"، وهو تشكيل أسّسه الصدر للعمل مع القوّات الأمنيّة لفتح الطرق "وإعادة الثورة إلى سلميّتها من خلال طرد المندّسين"، بحسب تعبيره، الأمر الذي سبّب مواجهات عنيفة مع المتظاهرين، راح ضحيّتها العشرات.
وسبّبت تحرّكات الصدر الأخيرة موجة من التساؤلات والنقاشات في وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعيّ، وتغييراً في مواقف الأطراف المدنيّة التي كانت ترى فيه الزعيم الإسلاميّ الأكثر قبولاً والحليف المتمكّن القادر على إحداث التغيير السياسيّ، لكنّها بدأت تشكّك في مستقبل هذا التحالف، خصوصاً بعد تقارب الصدر مع الكتل والأحزاب المقرّبة من إيران وتأييده تكليف محمّد توفيق علاوي تشكيل الحكومة الجديدة.
وبوصفه الحليف "المدنيّ" الأبرز للصدر، أعلن الحزب الشيوعيّ العراقيّ أن توجّهاته باتت "بعيدة" عن توجّهات التيّار الصدريّ، خصوصاً في ما يتعلّق بالتعامل مع حركة الاحتجاجات والعلاقة مع حكومة علاوي المرتقبة، وذلك بحسب عضو المكتب السياسيّ للحزب علي مهدي، الذي قال في حديث لـ"المونيتور": "إنّ التحالف مع الصدر كان من أجل الانتخابات فقط، ومع الحزب الذي أسّسه خلال عام 2018، وهو حزب الاستقامة في تحالف سائرون. واستطعنا الحصول على عدد جيّد من المقاعد البرلمانيّة".
أضاف: "لكن بعد انسحاب نوّاب الحزب الشيوعيّ في تشرين الأوّل/أكتوبر من العام الماضي، احتجاجاً على القمع الوحشيّ للتظاهرات العراقيّة أصبح تحالف سائرون في حكم الملغى، وانتهى الارتباط البرلمانيّ مع التيّار الصدريّ، ولا اتصالات بين الجانبين".
وعن أسباب الافتراق في ساحات الاحتجاج، قال علي مهدي: "إنّ أولويّات الصدر الآن تختلف عن أولويّات الشيوعيّ، فالأوّل يسعى إلى إخراج القوّات الأميركيّة ويرى ضرورة دعم ترشيح رئيس الوزراء المكلّف محمّد توفيق علاوي لتحقيق هذا الهدف، فيما كان البرنامج الذي اتفقنا عليه معه، وما زال من أهم أهدافنا، هو تأسيس دولة مدنيّة وحصر السلاح بيدّ الدولة".
أضاف: "إنّ ترشيح علاوي، جاء خلافاً للشروط التي وضعتها ساحات الاحتجاج، ونسعى إلى الاستمرار في النضال من أجل تحقيق مطالب الشعب".
ولفهم التوليفة الغريبة، التي تجمع حراكاً مدنيّاً يقوده الحزب اليساريّ الشيوعيّ وتيّار يمينيّ إسلاميّ يؤمن بتدخّل الدين بالسياسية المتمثّل بالتيّار الصدريّ، لا بدّ من معرفة ضعف الأطراف العلمانيّة في البلاد وعدم تمكّنها من المشاركة في الحكومات التي أعقبت إسقاط النظام العراقيّ السابق في عام 2003. ولذا، كانت تبحث عن طرف حامي لمشاركتها في الحياة السياسيّة أو ضامن لها، وهو ما وجدته في تيّار الصدر، لكن هذه المعادلة تغيّرت بعد أن أثبت "التيّار المدنيّ أنّه الأقوى في الشارع"، كما رأى النائب عن المدنيّ المنسحب من تحالف "سائرون" باسم خشان، الذي اعتبر في اتصال مع "المونيتور" أنّ "التيّار الصدريّ اُعطي أكثر من فرصة ليكون جزءاً من حركة الإصلاح والتغيير السياسيّ، لكنّه يثبت فشله في كلّ مرّة"، وقال: "بسبب تلوّن التيّار المستمرّ وعمله في أكثر من اتّجاه، خدمة لمصالحه وأهدافه السياسيّة فقط، فإنّنا كتيّار مدنيّ لا نستطيع مجاراته، لأنّ أهدافنا ثابتة ولن تتغيّر، وهي في خدمة الشعب ومصالحه".
أضاف باسم خشان: "الفراق بين التيّارين المدنيّ والصدريّ نهائيّ، ولا رجعة فيه، بعد أن انكشفت الوجوه وزالت الأقنعة".
وتابع: "الصدر ركب عربة التغيير متأخّراً بعد 1 تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، ونزل منها مبكراً قبل تحقيق أهداف الثورة، والانتخابات المقبلة ستثبت الحجم الحقيقيّ لكلّ طرف إذا ما جرت بصورة صحيحة ومن دون تزوير".
ومع استمرار أزمة تعريف مفهوم "المدنيّة" في العراق، كونه من المفاهيم الجدليّة غير الواضحة اتّخذته الأطراف غير الإسلاميّة كغطاء أو عنوان عريض لمواجهة "الإسلام السياسيّ" يجنّبها الإفصاح عن هويّاتها الليبراليّة أو العلمانيّة، تحاول جهات "مدنيّة" اليوم التمييز بينها وبين الحزب الشيوعيّ.
وقال القياديّ في التيّار المدنيّ ذو الفقار حسين لـ"المونيتور": إنّ انقلاب التيّار الصدريّ على ساحات الاحتجاج أثبت حقيقة مهمّة، مفادها أنّ الصدر لم يكن حليفاً للتيّار المدنيّ على الإطلاق، بل مع الحزب الشيوعيّ فقط، ولأسباب انتخابيّة.
أضاف: "لا يعني أبداً إعلان الصدر قربه من التيّار المدنيّ أو تأييد بعض الشخصيّات المدنيّة لتوجّهات الصدر، وجود تحالف بين التيّارين".
وتابع: "إنّ ثورة تشرين أثبتت أنّ التيّار المدنيّ أكبر وأقوى من التيّار الصدريّ، خصوصاً بعد أن ثبت انحياز الصدر إلى السلطة والوقوف ضدّ الشارع المحتجّ. وإنّ نجاح رئيس الوزراء المكلّف محمّد توفيق علاوي في تشكيل الحكومة سيؤدّي إلى استمرار الصدام في الشارع وتراجع شعبيّة الصدر على المستوى الوطنيّ".
الأسابيع القليلة المقبلة ستختبر مدى قدرة التيّارات المدنيّة على مواجهة وزارة قد يدعمها الصدر بصورة كاملة واستعداد الأخير للتضحية بجزء كبير من شعبيّته مقابل قرارات حكوميّة تبدأ بإخراج القوّات الأميركيّة من البلاد ولا تنتهي بتنفيذ الاتفاق الاقتصاديّ مع الصين.
وفي كلّ الأحوال، فإنّ النتيجة الحتميّة لهذا الافتراق بين الصدر والمدنيّين هي ولادة صراع جديد يضاف إلى جملة الصراعات المزمنة في العراق بين من يعتقد أنّ تيّار الصدر لا يزال "تيّاراً وسطيّاً" معارضاً للنفوذ الإيرانيّ، وبين من يعتقد أنّ الزعيم الشيعيّ الشاب قد تحوّل إلى الجانب الآخر وأدار ظهره إلى حلفاء الأمس.