استهدفت 5 صواريخ السفارة الأميركيّة في بغداد بـ٢٧ كانون الثاني/يناير، لكنّ صاروخاً واحداً سقط داخل مبنى السفارة المحصّنة في المنطقة الخضراء الحكوميّة، وهذه هي المرّة الأولى التي يسقط فيها صاروخ يستهدف السفارة الأميركيّة داخل مقرّها، إذ دائماً ما تسقط الصواريخ في محيطها أو بعيداً عنها، لكن في هذه الهجمة سقط داخل مطعمها وأصاب 5 أشخاص لم تعرف جنسيّاتهم ووظائفهم حتّى اللحظة، والغريب أنّ الفصائل الشيعيّة المسلّحة سارعت إلى عدم تبنّي هذه العمليّة في خطوة مستغربة.
وأشارت مصادر مقرّبة من بعض فصائل الحشد الشعبيّ لـ"المونيتور" إلى أنّ "الفصائل الشيعيّة تعمل على أن تتجنّب التصادم المباشر مع الأميركيّين خلال الفترة الحاليّة، وهي تنتظر الموقف السياسيّ والحكوميّ من إخراج القوّات الأميركيّة، لكن هذا لا يعني أنّها لم تستهدف الأميركيّين خلال الأسابيع الماضية، لكنّها قرّرت عدم الإعلان حتّى لا تحرج الحكومة العراقيّة"، وقالت: "لا تريد هذه الفصائل، خصوصاً التي دخلت العمل السياسيّ، أن تجازف بمصالحها ومكتسباتها. وبصراحة، تتمنّى إنهاء كلّ شيء سياسيّاً وعدم الاضطرار إلى الحلول العسكريّة".
من جهة أخرى، قال قياديّ في الحشد الشعبيّ لـ"المونيتور"، رفض ذكر اسمه: "نتوقّع حدوث ضربة عسكريّة أميركيّة ضدّ فصائل في الحشد الشعبيّ قريباً"، في إشارة إلى وجود معلومات لدى واشنطن حول من استهدف سفارتها أخيراً.
ولفت إلى أنّ "الولايات المتّحدة تعرف جيّداً من استهدف السفارة أخيراً، وبالأسماء".
في كلّ مرّة، لم تتبنّ أو تنفي الفصائل الشيعيّة المسلّحة التي تهدّد المصالح الأميركيّة في العراق أيّ ضربة، لكنّها سارعت هذه المرّة إلى الإعلان عن عدم تبنّيها.
زعيم "تحالف الفتح" هادي العامري الذي قاد حراكاً هاجم السفارة الأميركيّة في 31 كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، و"حركة عصائب أهل الحقّ" بقيادة قيس الخزعلي الذي هدّد بالثأر لاغتيال أبو مهدي المهندس ووضعته واشنطن على لائحة الإرهاب، أعلنا عن تبرّئهما من العمليّة.
كما أنّ حركة كتائب "حزب الله"، التي تعتبر قوّات النخبة في الفصائل الشيعيّة، استنكرت توقيت الضربة، وهي الوحيدة التي لم تُبد موقفاً في تبنّيها من عدمه، وحاول "المونيتور" مقابلة إحدى قياداتها وطرح بعض الأسئلة عليها، إلاّ أنّها أبدت رفضاً لذلك.
وذكرت الحركة في بيان مقتضب بعد ضرب السفارة الأميركيّة بيوم: "إنّ العمليّة التي استهدفت سفارة الشرّ الأميركيّة، ورغم أنّها ردّة فعل طبيعيّة لأبناء الشعب العراقيّ الغيور، إلاّ أنّ توقيتها غير مناسب وقد يتسبّب بإحراج الحكومة العراقيّة".
عدم تبنّي الضربة والتبرّؤ منها، طرحا تساؤلات عدّة، منها: لماذا لم تتبنّ الفصائل ضربات سابقة أو تعلن البراءة منها؟ ولماذا صار التركيز على هذه الضربة؟ فهل تخشى قيادات الحشد وتلك الفصائل ردّة الفعل الأميركيّة؟
علّق رئيس المجموعة العراقيّة للدراسات الاستراتيجيّة واثق الهاشمي خلال حديث لـ"المونيتور" على سبب عدم تبنّي فصائل مسلّحة والحشد الشعبيّ تلك الضربة، وقال: "هناك خوف من العقوبات الأميركيّة التي يتوقّع أن تصدر قريباً، وهناك ضغط إيرانيّ للتوقّف عن مهاجمة الأميركيّين بسبب المفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران".
يبدو أنّ الفصائل متردّدة في استهداف المصالح الأميركيّة في العراق بشكل مباشر، وربّما يتعلّق الأمر بـ"قسوة" الردّ الأميركيّ على أيّ تصرف تقوم به، فمحاولة اقتحام السفارة الأميركيّة والهجوم عليها في آخر أيّام العام الماضي، كان ردّهما قاسياً وكلّف إيران والحشد الشعبيّ أبرز قائدين عسكريّين فيهما.
وقال المتحدّث باسم المكتب السياسيّ في "حركة عصائب أهل الحقّ" محمود الربيعي لـ"المونيتور": "إنّ حركات المقاومة لم تقم بقصف السفارة الأميركيّة، وقرّرت إعطاء فرصة للعمل السياسيّ والديبلوماسيّ والضغط الشعبيّ، لكن هذه الفرصة ليست مفتوحة زمنيّاً، بل ستحدّدها الظروف المؤثّرة، وسيبقى سلاح المقاومة جاهزاً، وهو آخر الحلول".
وتحدّث الباحث في "مركز النهرين الحكوميّ للدراسات الأمنيّة" هشام الهاشمي عن وجود "مشكلة قائمة داخل الحشد، وهي وجود فريقين: حشد الدولة وحشد الفصائل"، وقال لـ"المونيتور": "إنّ الأوّل منضبط نوعاً ما بقرارات قيادة الحشد، بخلاف حشد الفصائل فهو قوّات هجينة جزء منها مع الدولة وتنتفع من القانون والإدارة والمال، وجزء منها يتبع منهجيّة إيران ورعاية مصالحها في تصدير الثورة ومحور المقاومة".
أضاف: "إنّ الجزء الثاني لم يكن له ضابط للسيطرة عليه، وقد ترك باجتهاد قادة حشد الفصائل لتنفيذ أجندة محور المقاومة بعد حادثة اغتيال سليماني والمهندس، وهذه فوضى لا يمكن السيطرة عليها، إلاّ من قبل إيران الثورة (الحرس الثوريّ)".
وفي 8 كانون الثاني/يناير الماضي، دعا زعيم التيّار الصدريّ مقتدى الصدر، الذي يتزعّم حراكاً للفصائل المسلّحة بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبيّ العراقيّ أبو مهدي المهندس، إلى ضرورة أن تتأنّى الفصائل في تنفيذ الهجمات العسكريّة ضدّ المصالح الأميركيّة إلى حين "استنفاد الوسائل السياسيّة والقانونيّة".
مقتدى الصدر وبقيّة الفصائل اللذان عرفا بـ"ثوريّتهما"، تغيّرت خطاباتهما بعد حادثة اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، فغيّرا تعاملهما مع الوجود الأميركيّ في العراق الذي يرفضانه في الأساس، فهما على علم جيّد بعدم وجود توازن عسكريّ بينهما، ولا يريدان تكبّد أيّ خسائر تُحرجهما أمام جمهورهما وخصومهما. ولذا، يسعيان إلى حلّ المشكلة مع واشنطن سياسيّاً.
تجد هذه الحركات المسلّحة في التحرّك السياسيّ والقانونيّ لإخراج القوّات الأميركيّة، باباً يبعدها عن الإحراج أمام جمهورها الذي يطرح هو وغيره تساؤلات حول تأخّر الردّ على مقتل المهندس، رغم التهديدات الكبيرة التي أطلقت، ورغم ردّ إيران على مقتل سليماني.
في المحصّلة، يتّضح من خلال المواقف غير الموحّدة والانفعاليّة لهذه الحركات، أنّها لن تدخل في مواجهة مباشرة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة، وستتّبع استراتيجيّة الضربات المتقطّعة مثل تلك التي استهدفت السفارة الأميركيّة نهاية الشهر الماضي، وهذا يُدلّل على غياب الضابط الحقيقيّ لمواقفها بعد مقتل المهندس، الذي كان يلعب دور المنظّم والقائد الحقيقيّ لها.