تعدّ بحيرة القرعون من أكبر البحيرات الاصطناعيّة في لبنان، وتتمتّع مياهها بأهمّيّة كبيرة، إذ تستخدم لريّ المزروعات في عدد من قرى البقاع الغربيّ وجنوب لبنان، كذلك تساهم في توليد الطاقة الكهربائيّة في معامل مركبا والأوّلي وجون. وفي تمّوز/يوليو 2019 غطّى اللون الأخضر البحيرة، الأمر الذي أقلق السكّان والمزارعين الذين خافوا على محاصيلهم من البطاطا والقمح والخضار والفواكه.
والجدير ذكره أنّ بحيرة القرعون التي أنشئت عام 1959 تعاني من التلوث الصناعي بسبب صبّ النفايات الصناعية من معامل الألبان والأجبان والمصانع الخاصة بمواد البناء والاسمنت وصناعة الألومينيوم، إضافةً الى النفايات الطبية مثل أكياس الأمصال والإبر، كذلك استخدام مبيدات زراعية لا تراعي سلامة المياه، ولهذا السبب كانت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني قد أطلقت مشروع المنصات العائمة في بحيرة القرعون عام 2018 لمكافحة السموم في المياه، حيث تقوم بالحدّ من نمو "الطحالب" المضرة، لكنّها لم تنه مسألة التلوث بأكملها، ونفذ المشروع بهبة هولندية قيمتها 400 ألف دولار. وقبلها أشرف مجلس الإنماء والإعمار على مشروع مكافحة تلوث نهر الليطاني، لكنّ كل المهام لم تؤدّ إلى تنظيف حوض الليطاني الذي ناشد الخبراء والمسؤولون الذين تحدثوا لـ"المونيتور" للعمل على وقف مصادر التلوث.
وفي هذا السياق، أوضح الباحث في المركز الوطنيّ للأبحاث العلميّة والأستاذ في الجامعة اللبنانيّة الدكتور كمال سليم في حديثه لـ"المونيتور" أنّ اللون الأخضر سببه تكاثر الـ"سيانوبكتيريا" في البحيرة، وهي بكتيريا تؤمِّن حاجتها من الطاقة من خلال عملية التمثيل الضوئي، وتضرّ بالحياة البحرية والثروة السمكية، كما أنّها تتسبب بأمراض جلدية، وتتسبب بسرطان الكبد.
وقال سليم إنّ المياه تتلوّن بحسب ما يتسرّب إليها، فمثلاً، يحوّل الصرف الصحّيّ المياه إلى لون داكن وقاتم أي قريب من الأسود.
وفي حديثه عن الـ"سيانوبكتيريا"، أشار سليم إلى تشكّل اللون الأخضر الذي أدّى إلى نفوق 30 نوعاً من الأسماك الموجودة في البحيرة، مستندًا الى نتائج دراسة بحثية أعدّها حول أنواع الأسماك والتغيّر البيولوجي في البحيرة. وشدّد على أنّ لا حلّ للتلوّث في البحيرة في شكل فعليّ في حال استمرّ تدفّق الصرف الصحّيّ والصناعيّ.
من جانبها، قالت الأستاذة الجامعيّة في قسم العلوم في الجامعة اللبنانيّة الدوليّة في البقاع والمتخصّصة في علوم الأحياء والطبيعة الدكتورة مهى كريّم: "سنرى هذه الظاهرة الخضراء في بحيرة القرعون خلال فصل الصيف إن لم يحصل حلّ من المصدر"، وأضافت كريّم التي بدأت أبحاثها حول البحيرة والتلوّث البيئيّ الحاصل فيها منذ عام 2011، حين قدّمت بحثاً علميّاً حولهما تحت عنوان "ديناميكيّة طفرة الـ"سيانوبكتيريا" في بحيرة القرعون"، خلال دراستها الماجستير في الجامعة اللبنانيّة، أنّه في ذلك الحين، أفرغت المصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني بحيرة القرعون بهدف استئناف تنظيفها، فدرست كريّم تأثير هذه الخطوة على الحياة البيولوجيّة والتغييرات الكيميائيّة التي لحقت بمياه البحيرة، إلّا أنّها أشارت إلى أنّ الحملات المتتالية للحدّ من التلوّث لم تشمل معالجة مصدر هذا التلوّث الآتي من نفايات المصانع والمستشفيات وغيرها. وأوضحت الدكتورة كريّم أنّ بحيرة القرعون شهدت في عام 2011 طفرة خضراء وتكاثرت الـ"سيانوبكتيريا" بفعل موجة الحرّ التي ضربت لبنان آنذاك، وتمّ الحدّ من توسّعها آنذاك، لكنّ زيادة التلوث عام 2019 بالترافق مع ارتفاع الحرارة وزيادة الهطولات المطرية أدّت الى عودة ظهور هذه البكتيريا الخطرة.
وأضافت كريّم أنّ المشهد يتكرّر اليوم، مع ارتفاع درجات الحرارة، إضافة إلى توافر النيترات والفوسفات اللازمين لنموّ الـ"سيانوبكتيريا" وتكاثرها، مشيرة إلى أنّ هذه الظاهرة تعدّ من أخطر الأنواع الموجودة في بحيرة القرعون، ونبّهت من أنّها تفرز أنواعاً خطيرة من السموم التي تؤثّر على الصحّة، فقد تصيب الجهاز العصبيّ والكبد وتتسبّب في حساسية في الجلد إذا لامسها أيّ شخص، ولذلك نصحت بعدم ممارسة السباحة في مياه البحيرة. ورأت أنّ الحلّ يجب أن يكون من المصدر لتقليص كمّيّات النيترات والفوسفات في البحيرة، وذلك من خلال إقامة محطّات تكرير للمياه الآسنة، وإلزام المصانع بوضع مصافٍ للنفايات الصناعيّة.
وقال رئيس المصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني، الذي تقع بحيرة القرعون ضمن حوضه، الدكتور سامي علويّة لـ"المونيتور" إنّ عام 2019 كان أفضل من الأعوام الماضية من حيث نسبة التلوّث، بسبب زيادة كمّيّات المياه، فبحيرة القرعون كانت تحتوي على 80 مليون متر مكعّب في تمّوز 2018، أمّا الآن فالكمّيّة تفوق الـ190 مليون متر مكعّب بسبب زيادة هطول الأمطار في 2019. وكشف أنّ تدفّق الصرف الصحّيّ مستمرّ من ينابيع العليق في غرب مدينة بعلبك، مروراً بأقضية بعلبك والبقاع الغربيّ وزحلة، وصولاً إلى البحيرة، ويشمل مئات مخيّمات النازحين السوريّين في حوالى 69 بلدة لبنانيّة، وبعض المؤسّسات الصناعيّة والمعامل الخاصة بالمنتجات الغذائية وبمواد البناء وغيرها، ممّا يؤدّي إلى تدفّق مليون متر مكعّب من الصرف الصحّيّ على مدار العام، إضافة إلى تهريب الأسمدة الزراعيّة والمبيدات من دول الجوار وغياب إلمام المزارعين بكيفيّة استعمال هذه المبيدات، التي تدخل التربة ثمّ تتسرّب إلى مياه الليطاني أو تصبّ مباشرة في بحيرة القرعون، فهذه كلّها عوامل تؤدّي إلى زيادة الـ"سيانوبكتيريا".
وأشار علويّة إلى أنّ البعض يعتبر أنّه يجب معالجة المياه في البحيرة للحدّ من التلوّث، وأضاف: "لكنّنا رأينا أنّ أيّ معالجة للمياه في البحيرة مع استمرار تدفّق الصرف الصحّيّ هو هدر للمال وتضييع للوقت، ويجب إزالة المشكلة من أساسها والقضاء على التلوّث عبر منع التعدّيات ووقف الملوّثات من الصرف الصحّيّ إلى التسرّب الزراعيّ إلى بحيرة القرعون. وعندما تتوقّف الملوّثات، سنجد حلّاً للتلوّث ومعالجة المياه والترسّبات من بينها الـ"سيانوبكتيريا"، مشدّداً على ضرورة إقامة محطّات تكرير وتأهيل محطّات الفرزل وأبلح وإيعات، وإنشاء محطّة قبّ الياس وتمنين، وهي قرى تقع على ضفاف الليطاني، كذلك قال إنه يجب إيقاف التهريب والاستخدام السيّئ للمبيدات الزارعيّة. وتطرّق علويّة إلى القرض البالغ 55 مليون دولار من البنك الدوليّ، لمعالجة مشكلة البحيرة ويتضمّن إنشاء محطّة تكرير وشبكة مياه للصرف الصحّيّ في زحلة، ولذلك فالحلّ واضح ويتمثّل في إيجاد حلّ جذريّ للمشكلة، بأسبابها وليس بآثارها، أي لا يمكن أن تُدفع ملايين الدولارات من دون إيجاد حلّ للملوثات الأساسية.
من جانبه، أكّد وزير الصناعة وائل أبو فاعور الذي يسعى إلى أن تصبح نسبة التلوّث الصناعيّ صفراً في نهاية الصيف الحاليّ أنّه مستمرّ في حملته للكشف على المصانع الملوثة للبيئة على ضفاف الليطاني، معتبرًا أنّ لهذه المنطقة أهمّيّة في مجال السياحة البيئيّة أيضًا. ولفت في حديثه إلى "المونيتور" إلى وجود 800 مصنع حول حوض الليطاني، ولذلك فقد أمهلت وزارة الصناعة المصانع لاستيفاء الشروط اللازمة من أجل الحدّ من التلوّث، واستوفت 80% منها الشروط، وأشار إلى أنّ المهل انتهت بالنسبة إلى المصانع التي قسّمها إلى فئات بحسب منتجاتها، وكان قد أعطى مهلة ستة أشهر للمصانع المخالفة للشروط البيئية، وهي المصانع التي تُعنى بالصناعات البيتروكيمائية وبأنتاج المواد الغذائية ومواد البناء وغيرها، وطلب منها تسوية أوضاعها تحت طائلة الاقفال.