بيروت - منذ اليوم الأوّل للتظاهرات التي انطلقت في 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 وعمّت مختلف أنحاء البلاد من الشمال إلى الجنوب، مروراً بالعاصمة بيروت، بهدف تحقيق مطالب اجتماعيّة واقتصاديّة، تبدّل مشهد ساحتي الشهداء ورياض الصلح في وسط بيروت، إذ اكتظّت الساحتان بالمتظاهرين الذين أتوا من داخل المدينة وخارجها، من مختلف شرائح المجتمع، بمعزل عن انتماءاتهم السياسيّة والحزبيّة والمناطقيّة وحتّى الطبقيّة، فيما كانت غالبيّة زوّار هذا الوسط أبناء الطبقة البرجوازيّة وميسوري الحال طوال العقدين الأخيرين.
ولم يقتصر مشهد الساحتين على الزوّار والمتظاهرين، فقد كان لافتاً تدفّق الباعة المتجوّلين إلى الساحتين، حاملين فناجين القهوة وعبوات المياه وحتّى غزل البنات، حيث يتنقّلون بين المتظاهرين، ومنهم من أحضر عربات متجوّلة يبيعون عليها الكعك الطرابلسيّ والفول والذرة المشويّة والعصائر وسندويشات الشاورما والقهوة والشاي وحتّى الأعلام اللبنانيّة.
يقول حسين صقر (23 عاماً)، وهو صاحب إحدى عربات الذرة والفول التي تتواجد على المدخل المؤدّي إلى ساحة رياض الصلح لـ"المونيتور": "أنا أسكن في منطقة خلدة (جنوب بيروت)، كلّ يوم آتي إلى هنا منذ أن بدأت الثورة، كنت أشتغل لحّاماً وتوقّفت، واشتريت هذه العربة، وقرّرت أن آتي لأبيع هنا، أفضل من البقاء في البيت. وأنا فرحان لأنّني أكسب بعض المال، ولم أفكّر أبداً أنّه كان في إمكاني أن آتي إلى هنا للبيع، في هذه المنطقة الممنوعة علينا". ويضيف: "كلّ يوم، أضع العربة في موقف قريب، وأعود في اليوم التالي، ومعي فول وذرة حتّى أبيعهما للمتظاهرين. لكنّ، بعد انتهاء الثورة، سأصبح بالتأكيد بلا عمل، لأنّ الدولة تمنعنا من البيع على الطرقات في بيروت".
ويقول بائع آخر (فضّل عدم الإفصاح عن اسمه) لـ"المونيتور" إنّه في الساحة كلّ يوم مساء منذ بدء التظاهرات، يعمل في النهار ببيع الكعكة الطرابلسيّة في منطقة الكولا في بيروت، ولكنّه يأتي ليلاً إلى وسط بيروت بسبب الزحمة التي تعمّ الساحتين، ويبيع الكعكة بألفي ليرة لبنانيّة، كما يبيعها في أيّ منطقة أخرى.
أفرحت صورة وسط بيروت الجديدة الكثير من الشبّان والشابّات الذين يملأون ساحات التظاهرات في بيروت، إذ قالت نادين معوّض، وهي إحدى الشابّات اللواتي يقصدن الساحتين يوميّاً لـ"المونيتور": "الصورة في الساحتين أكثر من رائعة، وهكذا يجب أن تكون دائماً". وأضافت: "هذه المرّة الأولى التي أشعر فيها بأنّ بيروت عاصمتي كلبنانيّة، إذ باتت تشبهنا اليوم، على أمل أن تستردّ الثورة هذه العقارات وتحوّلها مكاناً لعامّة الناس كمساحة للتلاقي والنقاش، من دون أيّ وجود لحواجز أمنيّة أو موانع شكليّة أو طبقيّة".
وقالت معوّض: "هذا ملك عامّ، كيف قرّروا تشييد بنايات فخمة فيه! اليوم، اشتريت منقوشة صاج وفنجان شاي بـ3 آلاف ليرة لبنانيّة فقط، وهذا سعر زهيد جدّاً مقارنة بأسعار المطاعم والمقاهي هنا. أرتدي يوميّاً ما يحلو لي، ليس مفروضاً عليّ أن أكون بكامل أناقتي كي لا أشعر بأنّني لا أشبه المكان كما كان من قبل".
تشبه وجهة نظر معوّض وجهة نظر كثير من الشبّان والشابّات المتظاهرين، إذ اعتبرت ريم قانصو في حديث إلى "المونيتور" أنّ "البعض لم يكن يحلم يوماً بأن يسهر في وسط بيروت ويأكل بأرخص الأسعار، وحتّى في الأعياد والمناسبات العامّة، لم تمتلئ الساحات بهذا العدد من الناس من الفئات الفقيرة تحديداً"، وهذا ما يتّفق عليه المتظاهرون الذين التقاهم "المونيتور"، ولكن بفارق بسيط في وصف المشهد وتحديده، فبحسب جواد بدر الدين، وهو شاب عشرينيّ، فإنّ "المشهد جميل جدّاً، وينطبق وجود الباعة المتجوّلين مثلاً على أهداف الثورة في دعم الطبقة الفقيرة، ولكن أحياناً، كثرت العربات وأصبح الوضع يشبه الكارنفال، وهذا تعارض برأيي مع شكل الثورة، لكنّ وجود الباعة ليس خطأ بل حاجة، إذ أمّنوا للمتظاهرين الطعام بأسعار رخيصة". فيما اعتبرت إحدى المشاركات أنّ "مشهد الباعة إلى جانب المقاهي الأنيقة يستقطب كلّ شرائح المجتمع والأجانب الذين يقصدون العاصمة بيروت، وهكذا يكون وسط بيروت للغنيّ والفقير معاً".
لوسط البلد أيضاً صورة مختلفة في ذاكرة جيل ما قبل الحرب الأهليّة في لبنان (1975-1990)، فهذا الوسط في بيروت ليس كبيروت ما قبل عام 1975، فقد تبدّلت معالمه من حيث الشكل والبناء، وحتّى المضمون، على الرغم من أنّ أسواقه التجاريّة ما زالت تحمل في زواريبها أسماء أسواق بيروت القديمة.
يقول أبو محمّد البيروتي كما عرّف عن نفسه لـ"المونيتور": "كانت الأسواق القديمة جميلة وشعبيّة ومفتوحة لجميع الناس من كلّ الطوائف والطبقات الاجتماعيّة، وكانت الحياة أجمل هنا، وبعد المظاهرة، عدنا نشعر بأنّها حلوة".
تشرح المهندسة المعماريّة والناشطة في القضايا المدينيّة عبير سقسوق لـ"المونيتور" كيف تبدّل مشهد وسط بيروت تاريخيّاً، قائلة: "لقد خضع إلى الهدم وإعادة البناء مرّات منذ عشرينيّات القرن الماضي، وفي ظلّ الانتداب الفرنسيّ الذي هدم جزءاً من النسيج الشعبيّ القديم الذي يعود إلى الفترة العثمانيّة، إلى أن قضي كليّاً على المعالم القديمة لوسط بيروت".
وتضيف سقسوق: "بعد انتهاء الحرب الأهليّة في التسعينيّات، أعادت شركة "سوليدير" بناء الوسط، حيث أوكل إليها ذلك، وفق معايير مختلفة ،أيّ هدمت كلّيّاً معالم وسط بيروت القديمة وشيّدت مبانٍ على الطراز الحديث، وقد حاول بعض الناس آنذاك مقاومة هذا التبدّل لأسباب تتعلّق بالتراث وطريقة الحياة واقتصاد الناس، ومع ذلك فرض التبدّل بالقوّة وبطريقة عنيفة وفاقعة".
وتعتبر سقسوق أنّ "ما يجري اليوم في الساحتين جميل جدّاً، وأهمّ ما فيه شعور الناس بأنّ المدينة ملكهم، استعادوا مساحاتها المفتوحة وتصالحوا معها، والدليل أنّهم يعتنون بنظافة هذا الوسط، ويرسمون على جدران المدينة، على الرغم من تطويق المكان بالحواجز الحديديّة". وأضافت: "أمّن الباعة حاجات المتظاهرين في الساحتين، حيث مساحات النقاش والتلاقي التي ستبقى مساحات مفتوحة حتّى ولو انقمعت انتفاضة الشعب، وهذا في حدّ ذات انتصار".
من جهته، يقول رئيس جمعيّة تراث بيروت، التي تعنى بحفظ تراث بيروت وتوثيقه وإحيائه، سهيل منيمنة لـ"المونيتور": "إنّ وسط بيروت أعيد تحديثه بعد الحرب الأهليّة كي يتناسب والطبقة البرجوازيّة، حتّى بات الوسط لا يشبه الفئة الأكبر من اللبنانيّين". ويضيف: "لقد دأبت الجمعيّة على طلب عودة وسط بيروت، ولا سيّما الأسواق على ما كانت عليه، لكنّ لا آذاناً صاغية، فـ"سوليدير" ورأس المال المتسلّط على البلد مستفيدان من هذا الواقع، ولا يقبل التغيير".
ويقول: "برأيي، الصورة الجديدة للساحتين التي تبلورت مع الثورة موقّتة، وستغيب بمجرد انتهاء التظاهرات، طالما لم تصدر أيّ قوانين تفرض تبدّل صورة وسط البلد التي كرّسها المقاولون بعد انتهاء الحرب الأهليّة".