بيروت - تخيّم أزمة اقتصاديّة وماليّة على لبنان الذي يعدّ ثالث أكثر بلد مديونيّة في العالم، من حيث نسبة الدين العامّ التي بلغت 151% من إجمالي الناتج المحلّيّ في عام 2018، ممّا جعل مدفوعات الفائدة تتجاوز الـ9% من إجمالي الناتج، بحسب أرقام صندوق النقد الدوليّ الذي كشف أيضاً أنّ الاحتياطات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان سجّلت انخفاضاً بنحو 6 مليارات دولار أميركيّ منذ أوائل عام 2018، ويعتبر معدّل نموّ الودائع في عام 2018 الأدنى منذ عام 2005.
وترافقت الأزمة مع إجراءات مصرفيّة صارمة، حيث فرضت المصارف اللبنانيّة قيوداً على الودائع، وحدّت من عمليّة سحب الأموال، كما أوقفت القروض السكنيّة، وجمّدت التحويلات إلى الخارج، ممّا أدّى إلى شحّ الدولار في السوق اللبنانيّ، وارتفاع سعر تصريفه مقابل الليرة اللبنانيّة، حيث وصل سعر صرف الدولار إلى 2400 ليرة لبنانيّة لدى الصيارفة في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، قبل أن يعود ويستقرّ بين 1980 و2000 ليرة في عمليّات البيع والشراء خلال الأسبوع الثاني من كانون الأوّل/ديسمبر، علماً أنّ السعر الرسميّ لا يزال1507 ليرات لبنانيّة.
وكان لافتاً تغيّر سعر صرف الدولار في سوريا، والذي لامس حاجز الألف ليرة سوريّة، توازياً مع ارتفاع سعر الصرف في لبنان، فيما بقيت قيمته في المصرف المركزيّ السوريّ 434 ليرة، ممّا دفع إلى التساؤل إن كانت الأزمتان النقديّتان مترابطتين، خصوصاً في ظلّ حديث غير رسميّ بين اللبنانيّين عن أنّ كمّيّات من الدولار كانت تهرّب من لبنان إلى سوريا التي تواجه عقوبات أميركيّة تحظر على المؤسّسات الماليّة الأميركيّة التعامل مع البنوك والمصارف السوريّة، كذلك هناك أكثر من مليون لاجئ سوريّ مسجّل لدى المفوّضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، فيما تقدّر الحكومة اللبنانيّة عددهم الفعليّ بـ1.5 ملايين سوريّ، إضافة إلى تجّار سوريّين يودعون أموالهم في مصارف لبنانيّة. وبحسب رسم بيانيّ ورد في تقرير أعدّه المجلس النرويجيّ للّاجئين نقلاً عن بيانات البنك الدوليّ، فإنّ 17% من التحويلات إلى سوريا تأتي من لبنان، الذي يحلّ في المرتبة الثانية للتحويلات إلى سوريا بعد السعوديّة التي يحوّل السوريّون فيها ما نسبته 29% من إجمالي التحويلات الماليّة. وإضافة إلى ما تقدّم، فإنّ أعداد العاملين السوريّين في لبنان مرتفعة، ووفقاً لتقييم حول حياة اللاجئين السوريّين لعام 2016، تتركّز القوى العاملة السوريّة في شكل رئيسيّ في قطاع البناء (33%) والأنشطة الزراعيّة (22%)، والخدمات (26%)، والمحلّات التجاريّة (6%)، والتنظيف (6%)، علماً أنّ السوريّين كانوا يشكّلون 90% من إجمالي عمّال البناء في لبنان في عام 1972، بحسب ما ورد في كتاب القفص غير المنظور: العمّال السوريّون في لبنان.
وفي حديث إلى "المونيتور"، علّق نائب رئيس نقابة الصيارفة إيلي سرور على التقلّبات في سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانيّة، موضحاً أنّ المصارف بدأت بإجراءات تحدّ من بيع الدولار قبل اندلاع ثورة 17 تشرين الأوّل/أكتوبر. ورأى أنّ أيّ أزمة تطال سوق النقد هي سياسيّة، متوقّعاً أن يستعيد الناس ثقتهم بالنظام المصرفيّ في لبنان في حال تشكّلت حكومة جديرة بالثقة، فالاقتصاد والسياسة والأمن هي 3 عوامل مترابطة. وأشار إلى أنّ سوق الصيرفة في لبنان يضمّ 300 شركة وتبلغ قيمة تعاملاتها اليوميّة حوالى 10 ملايين دولار أميركيّ، وهو رقم غير كبير مقارنة بالتداولات المصرفيّة، وشدّد على أنّ محلّات الصيرفة هي وسيط بين البائع والشاري، وارتفعت نسبة الطلب على الدولار لديها خلال تشرين الثاني/نوفمبر. وأوضح أنّه "عندما بدأت الأزمة، عمد اللبنانيّون إلى سحب أموالهم بالدولار من المصارف ووضعها في المنازل، وقدّرت بـ4 مليارات دولار، وبسبب ارتفاع سعر الصرف، فاللبنانيّون لا يدفعون بالدولار، بل يلجأون إلى الصيارفة لتصريف المبالغ من الدولار إلى الليرة اللبنانيّة، لرفع قدرتهم الشرائيّة قبل التوجّه إلى السوق والصيدليّات".
وعن تهريب الدولار إلى سوريا، قال سرور إنّ محلّات الصيرفة لم تشهد تدفّقاً للسوريّين لتصريف عملتهم مقابل الدولار، فالتجّار اللبنانيّون هم أكثر من تعامل مع الصيارفة بنسبة 80%، فيما توزّعت النسبة الباقية على المواطنين. وعن سعر صرف الدولار، أشار إلى أنه يتراوح بين 1980 و2000 ليرة في عمليّات البيع والشراء.
والجدير ذكره أنّ مصرف لبنان كان قد تمكّن من الحفاظ على الاستقرار في سعر صرف الليرة اللبنانيّة بفضل هندسات ماليّة، لكنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أوضح في مؤتمر صحافيّ عقده في 11 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بالقول: "مررنا بتحدّيات منها الحرب السوريّة، حوّلت ميزان المدفوعات من ميزان فيه فائض إلى ميزان فيه عجز، وتراجع النموّ الاقتصاديّ من 5% إلى 2%".
من جهته، أعدّ نائب المدير التنفيذيّ لسوق دمشق للأوراق الماليّة الدكتور كنان ياغي دراسة نشرها مركز دمشق للأبحاث والدراسات-مداد، وهو مؤسّسة بحثيّة مقرّها مدينة دمشق، أشار فيها إلى أنّ الليرة السوريّة بلغت أعلى مستوى في تاريخها، وذلك خلال الأسبوعين الأولين من نوفمبر 2019، حيث قاربت الـ 715 ليرة للدولار الأميركي الواحد بحسب ياغي – فيما أوردت مواقع إعلامية أنّ سعر صرف الدولار بلغ ألف ليرة سورية في أول أبوع من كانون الأول. ولفت ياغي في الدراسة إلى أنّ الأزمة الاقتصاديّة في لبنان أثّرت سلباً على سعر صرف الليرة السوريّة، بسبب منع مصرف لبنان إخراج الدولارات النقديّة في حقائب الصرّافين والتجّار عبر مطار رفيق الحريريّ الدوليّ والمعابر الحدوديّة، وإلزام مكاتب الصرافة بالحصول على ترخيص مسبق لنقل الأموال والقيام بذلك بوساطة شركات صيرفة مرخّصة، في حين كان سابقاً في إمكان الناس نقل مبالغ كبيرة من الدولارات نقداً خارج لبنان بتصريح من سلطات الجمارك اللبنانيّة فقط. كذلك أضرّ قرار الحدّ من المبالغ التي يسمح للمودعين، بينهم السوريّون، بسحبها، "والتي تقدّر بعشرات المليارات من الدولارات" بسعر صرف الليرة السوريّة.
من جهته، أوضح كبير الاقتصاديّين في مجموعة بنك بيبلوس نسيب غبريل في حديث إلى "المونيتور" أنّ الأزمة الماليّة في لبنان بدأت في أواخر عام 2017 الذي سجّل نموّاً اقتصاديّاً بنسبة 0,6%، وحينها فرضت الحكومة اللبنانيّة ضرائب جديدة على الاستهلاك والأموال المنقولة والمعاملات الرسميّة، ولفت إلى أنّ زيادة استيراد المشتقّات النفطيّة في لبنان خلال عام 2019، التي سجّلت 8 ملايين و200 ألف طنّ خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2019، بعدما كانت 4 ملايين و800 ألف طنّ في الفترة نفسها من عام 2018، هي من أسباب الأزمة، فقد ارتفع استيراد المازوت من مليون و100 ألف طنّ إلى 4 ملايين و700 ألف طنّ، والتي بيعت منها كمّيّات إلى سوريا، ممّا زاد فاتورة الاستيراد النفطيّ على لبنان، الذي يشتري هذه المشتقّات بالدولار ويبيعها إلى سوريا مقابل عملة سوريّة أو سلع أو صناعات.
أمّا السبب الأبرز للأزمة الماليّة الحاصلة، فيعيدها غبريل إلى عدم وجود إرادة سياسيّة وجدّيّة لتطبيق إصلاحات تؤدّي إلى تعزيز الثقة وضخّ رؤوس الأموال وتخفيض العجز. واعتبر أنّ الحلّ يكمن في تشكيل حكومة تتمتّع بمصداقيّة لتتّخذ إجراءات جدّيّة وتحدث صدمة إيجابيّة في الأسواق التجاريّة وتعزّز ثقة المغترب والمستهلك. وعن سوق الصيرفة، قال إنّه يمثّل 4% من الكتلة النقديّة للعملات الأجنبيّة، أمّا "اقتصاد سوريا فهو مختلف عن اقتصاد لبنان، ومصرف لبنان يتّخذ إجراءات تتناسب مع الاستقرار الماليّ للبنان"، بحسب غبريل.