بعد مرور قرن على المجاعة التي شهدها لبنان خلال الحرب العالميّة الأولى وأسفرت عن مقتل ثلث سكّانه، وتحديداً منذ عام 1915 إلى عام 1918، عاد مشهدها يراود اللبنانيّين الذين يتخوّفون من تردّي الوضع الاقتصاديّ الصعب الذي جعل كثيرين من موظّفي الشركات والأساتذة والعاملين في المطاعم والفنادق يخسرون وظائفهم أو يحصلون على نصف راتب فقط. وقد أظهرت دراسة أجرتها شركة InfoPro مقرّها بيروت وتعنى بتقديم المعلومات عن العقارات والتمويل والاقتصاد في آخر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2019 أنّ 10 بالمئة من الشركات توقّفت عن العمل في لبنان منذ 17 تشرين الأوّل/أكتوبر، تاريخ انطلاق التظاهرات المطلبيّة في لبنان، الأمر الذي أدّى إلى خسارة 160 ألف شخص وظائفهم.
وتقترب نسبة السكّان الذين يعيشون في فقر من 30 بالمئة بحسب تقديرات البنك الدوليّ، الذي أشار أيضاً إلى أنّ انخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة بنسبة 30 بالمئة من شأنه أن يؤدّي إلى ارتفاع معدّل الفقر إلى أكثر من 50 بالمئة، وذلك وفقًا لبيان نشره على موقعه الإلكتروني في 6 نوفمبر، وقد أدّت كلّ هذه العوامل الاقتصاديّة والمعيشيّة الصعبة إلى قلق لدى اللبنانيّين الذين يفكّرون بأمنهم الغذائيّ وبتأمين حاجاتهم الأساسيّة، حيث أنّ 49 بالمئة منهم يشعرون بالقلق في شأن الحصول على الغذاء، وفقاً لتقرير برنامج الأغذية العالمي نُشر على الموقع الإلكتروني للبرنامج وقد تمّ تحديثه في نوفمبر 2019.
ولهذا السبب، بدأت الحملات التشجيعيّة في مناطق لبنانيّة عدّة للعودة إلى زراعة الأرض واستثمارها من أجل تأمين الاكتفاء الذاتيّ، فأسعار السلع الغذائيّة التي يتمّ استيرادها من خارج لبنان تزداد بشكل كبير بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار، الذي كان 1500 ليرة لبنانيّة، وأصبح الآن يتراوح بين 1950 و2200 لدى الصيارفة. وكذلك، فإنّ القطاع الزراعيّ في لبنان ضعيف وتغطّي الواردات ما يصل إلى 80 بالمئة من الحاجات الغذائيّة للبلد.
ومن أبرز الحملات التي شجّعت على زراعة الأراضي من أجل ضمان الأمن الغذائيّ، حملة "موسم زرع" التي كانت فكرة المعالجة الفيزيائيّة الدكتورة لورانس البعيني في بلدة مزرعة الشوف بقضاء الشوف، والتي تبعد 55 كلم جنوب شرق العاصمة اللبنانيّة بيروت. وعنها تحدّث لـ"المونيتور" الناشط في الحملة وعضو بلديّة مزرعة الشوف خالد أبو كروم، لافتاً إلى أنّهم بدأوا بتنفيذ الحراثة والزراعة منذ منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، وقال: إنّ الهدف الأساسيّ من المشروع هو مساعدة الطبقة الفقيرة التي تواجه الغلاء في أسعار الحبوب والأطعمة الرئيسيّة. فعلى سبيل المثال ارتفعت أسعار البرغل الذي يُستخدم كثيرًا في إعداد الطعام في القرى ألفي ليرة، كذلك الأمر بالنسبة للسكر والحبوب والبن والخضار والفواكه التي زادت أسعارها دولارًا على الأقل.
وأوضح أنّ هناك تعاوناً من أهالي البلدة، الذين رحبوا بالفكرة وقدّم كثيرون منهم أراضيهم لكي تتمّ زراعتها. وفي التفاصيل، فقد تواصل المسؤولون عن الحملة مع سكان القرية لكي يقدّموا أراضيهم المتروكة من دون زراعة منذ سنوات من أجل استثمارها، ومن جهتهم يتولّى هؤلاء المسؤولون حراثتها وزراعتها، ليستفيد أصحاب الأرض وأهالي القرية من المنتجات، كما أنّ أحد سكّان القرية، ويدعى شادي، قدّم جراره الزراعيّ للحراثة وتأهيل الأرض لرشّها بالبذور بشكل مجانيّ ليومين أسبوعيًّا.
وبحسب العضو في حملة موسم زرع خالد أبو كروم، ففي منتصف شهر نوفمبر قدّم رئيس الحزب التقدميّ الإشتراكيّ وليد جنبلاط طنّاً ونصف الطنّ من القمح إلى البلدة، التي زُرع فيها حتّى الآن 25 ألف متر مربّع من هذه البذور منذ بدء الحملة. وفي المرحلة المقبلة، سيعمل القيّمون على هذه الحملة على زراعة الفول والبازلاء وغيرها من الحبوب الرئيسيّة التي يستهلكها سكّان البلدة، والتي ستقدّم إليهم بعد حصادها بشكل مجاني، وبحال تحسنت الأوضاع الإقتصادية وكان هناك اكتفاء لدى الأهالي، يمكن بيع المحصول إلى خارج البلدة.
والجدير ذكره أنّ لبنان ملتزم بتطبيق خطّة التنمية المستدامة ضمن استراتيجيّة لجنة الأمم المتّحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغربيّ آسيا- الإسكوا للأمن الغذائيّ التي صدرت في أيار 2016، والتي تهدف إلى محاربة القفر، والتي تشير أيضاً إلى أنّ الزراعة انخفضت من 23 بالمئة من الناتج المحليّ في نهاية الحرب الأهليّة خلال عام 1990، وباتت تشكّل 4 بالمئة فقط.
وفي البقاع، طلبت المصلحة الوطنيّة لنهر الليطانيّ وهي مؤسسة عامة مهمتها الأساسية تنفيذ مشروع الليطاني للري والتجفيف ومياه الشفة والكهرباء، من مصلحة الأبحاث الزراعيّة تزويدها بكميّة 4000 كلغ من بذور القمح الطريّ من أجل زراعة مساحات تبلغ 15 هكتاراً في الاستملاكات التابعة للمصلحة الوطنيّة لنهر الليطانيّ. ثمّ باشرت بزراعة 32 دونماً من القمح في برّ الياس التي تبعد 51 كلم شرق العاصمة بيروت، وبدأت بتحضير الأراضي في محيط سدّ القرعون في البقاع الغربيّ لزراعتها بالقمح، وذلك ضمن خطوات بدأت المصلحة بتنفيذها للإستفادة من الأراضي والمحافظة على الأمن الغذائي.
من جهته، أوضح نقيب المخابز علي ابراهيم في حديث لـ"المونيتور" أنّ مخزون القمح المستورد كافٍ حتّى الآن، رغم زيادة الحملات التي تدعو المواطنين إلى الزراعة، لافتاً إلى أنّ لبنان يستورد القمح من دول عدّة من ضمنها كازاخستان وروسيا وأوكرانيا. وعن ارتفاع الأسعار، قال: إنّ القمح يتمّ تداوله ضمن الحبوب في البورصة العالميّة.
والجدير ذكره أنّ سعر ربطة الخبز ارتفع بالفعل، من دون أي إعلان رسمي وذلك من خلال قيام بعض المخابز بخفض وزن ربطة الخبز التي يبلغ سعرها 1500 ليرة، من ألف غرام إلى 880 غراماً، وعن هذا الأمر أشار ابراهيم إلى أنّ هناك أفراناً تقوم بذلك لكي لا تغلق أبوابها وتتجنّب توقّف عملها، فسعر طنّ الطحين الرسميّ هو 550 ألف ليرة، إلاّ أنّه يباع بـ610 ألف ليرة بسبب سعر صرف الدولار (سعر صرف الدولار رسميًا هو 1507,5 ليرة ولدى الصيارفة يتراوح بين 1950 ليرة و2050 ليرة).
وفيما يلاحظ اللبنانيّون غلاء أسعار الدجاج واللحوم، قال رئيس نقابة الدواجن سمير قرطباوي لـ"المونيتور": لدى لبنان اكتفاء ذاتيّ في عدد الدواجن، ويضمّ حوالى ألف مزرعة، لكنّ الصعوبة التي يواجهها المزارعون تكمن في تأمين الذرة والصويا التي تعدّ الموادّ الأوليّة في نموّ الدواجن، والتي يتمّ استيرادها من خارج لبنان.
بدورها، نشرت بلديّة رب ثلاثين، التي تقع في قضاء مرجعيون في جنوب لبنان وتبعد 97 كلم عن العاصمة بيروت في 19 نوفمبر عبر صفحتها على "فايسبوك" دعوة إلى الأهالي للمشاركة في توفير الأمن الغذائيّ على مستوى القرية، بحيث يعمد كلّ مواطن يملك أرضاً إلى زراعتها بنوع من أنواع الحبوب (قمح، عدس، وحمّص).
وأوضحت البلدية مواعيد زراعة وبداية نضج بعض المحاصيل الزراعيّة كالبصل والثوم والخس والبطاطا وغيرها. وكذلك، فعلت بلديّات أخرى في جنوب لبنان، ومنها بلديّة زوطر الشرقيّة في قضاء النبطيّة التي تقع على بعد 75 كلم جنوب بيروت، والتي قال رئيس بلديّتها الدكتور وسيم اسماعيل في حديث لـ"المونيتور": إنّ الحملة الزراعيّة في القرية هي خطّة تنمويّة أُقرّت منذ أكثر من عام، إلاّ أنّ الوضع الاقتصاديّ في لبنان أدّى إلى التسريع في تنفيذها. ولفت إلى أنّ البلديّة تدعم المزارعين والمواطنين الذين يرغبون في استثمار أراضيهم من خلال تقديم البذور والأدوية التي تحمي المزروعات لهم، وقد وزّعت البلديّة على المواطنين 4000 كيلو من بذور القمح والعدس. كما قدّمت بذور الخضار إلى أكثر من 200 عائلة، وتعمل البلديّة على إنشاء مزرعة أبقار، يحقّ لكلّ شخص من سكّان القرية الاستثمار بـ10 أبقار، وقال: إنّ هناك خطّة لتصريف الإنتاج الزراعيّ من خلال بيع المنتجات في معرض تقيمه البلديّة سنويّاً.
ولفت إلى أنّ الكثير من الأهالي يهتمّون بتربية النحل لإنتاج العسل وبزراعة مساحات كبيرة بالصعتر، وقال: إنّ البلديّة أقامت ندوة في 2 ديسمير عن أهميّة الزراعة وكيفيّة تنفيذ المشاريع الزراعيّة، وشارك فيها 200 مزارع من القرية، حتّى أنّ فئة الشباب كانت مهتمّة بهذا الموضوع.