رام الله - الضفّة الغربيّة: تستذكر المهندسة الفلسطينيّة ناديا حبش الأعمال التي قامت بهندستها، ولكنّها لا تستطيع جزم أيّ منها كانت سبباً في اختيارها من قبل مجلّة Middle East Architect ضمن قائمة أكثر 50 مهندساً معماريّاً مؤثّراً في الشرق الأوسط لعام 2019.
ولو كان الأمر عائداً لها، لكان مشروعها ترميم سوق الخضار في مدينة بيت لحم، هذا المشروع الذي استطاعت من خلاله تكريس قناعتها بأنّ العمارة رسالة.
نفّذت حبش ترميم سوق الخضار في بيت لحم بين عامي 2013 و2018، بما يتماشى مع روح البناء المعماريّ القديم للسوق ومع الأخذ في الاعتبار أنّه ممرّ للبلدة القديمة، وجزء منها.
اعتمدت تصميماً لتغطية السوق يتواءم مع ما هو موجود في الأصل، وصديقاً للبيئة من جهة أخرى، فمياه الأمطار التي كانت تغرق المحلّات أصبحت تتجّمع في الآبار، ومكبّ النفايات في قلب السوق أصبح يعتمد على كبس النفايات ونقلها مرّتين في الأسبوع بدلاً من مرّتين يوميّاً.
ليس فقط تنفيذ المشروع ليكون صديقاً للبيئة ما تفخر به حبش في هذا المشروع، وإنّما قدرتها على تلبية حاجة صغار الباعة من المزارعين وخصوصاً النساء، واللواتي يبعن منتجاتهنّ الزراعيّة والحيوانيّة للمواطنين مباشرة، بتخصيص سطح السوق الموازي للشارع العامّ لهذا الغرض.
عملت حبش (60 عاماً) طوال حياتها العمليّة على إعادة تعريف فنّ العمارة، فهي ليست رسوماً هندسيّة، وإنّما رسالة وطنيّة تؤدّيها، وتقول لـ"المونيتور": "لم أسع يوماً خلف المكاسب المادّيّة، قادتني قناعاتي إلى أنّ ما أقوم به هو نضال وطنيّ تجاه هذا الإرث المعماريّ في فلسطين".
بدأت حبش حياتها المهنيّة في عام 1982 بعد تخرّجها من قسم الهندسة المعماريّة من الجامعة الأردنيّة، بعد عودتها سعت إلى العمل في مكاتب هندسيّة، ولكنّ عمل هذه المكاتب على مشاريع تنظيم قرى لصالح الإدارة المدنيّة الإسرائيليّة في حينه، بما يتناقض مع قناعاتها الوطنيّة، جعلها تتوجّه إلى العمل الأكاديميّ في كلّيّة الهندسة والتكنولوجيا في جامعة بيرزيت، خلال ذلك حصلت على منحة دراسة الماجستير في جامعة ميشيغان في الولايات المتّحدة الأميركيّة بتخصّص فلسفة نظريّات العمارة والعمارة الاحترافيّة.
في عام 1997، تركت العمل الأكاديميّ وأسّست مكتباً هندسيّاً خاصّاً بها في رام الله.
تقول حبش إنّ المنافسة بين مكاتب الهندسة كانت كبيرة وكان عليها إثبات جدارتها واختيار المشاريع بعناية، ممّا جعل مكتبها في فترة قصيرة من أهمّ المكاتب الهندسيّة.
تستذكر أوّل هذه المشاريع في عام 1998، وهو بناء خزّان مياه من دون تشويه البيئة المحلّيّة في قريتين فلسطينيّتين، وقد فاز هذا المشروع بجائزة "المشروع المتميّز".
هذا إلى جانب مشروع تخرّجها وهوتصميم إسكان على نمط بناء الحارات الفلسطينيّة حيث المنازل المنفصلة والأحواش والذي صنّفها كمختصّة في ترميم المواقع الأثريّة.
ولتعزيز ذلك، خاضت تجربة ترميم قصور عبد الهادي في قرية عرابة في شمال الضفّة الغربيّة، بين عامي 2003 و2005 لتأهيل اثنين من هذه القصور، على الرغم من معرفتها أنّ المبلغ المخصّص من قبل المموّل وهو برنامج الأمم المتّحدة للتنمية الـUNDP، لا يتناسب مع المجهود الذي قامت به وطاقم عملها، وتقول: "كان من المهمّ لمسيرتي المهنيّة أن أضع بصمتي في مشروع ترميم مكان تاريخيّ مثل هذه القصور".
في حينه، كان العمل يجري لترميم القصرين وتحويلهما إلى مطعم وفندق، ولكنّها لم تقتنع بذلك، وقبلت بالميزانيّة المحدودة، ولكنّها لم تتنازل عن حقّها في فحص حاجات المنطقة لتقوم بالترميم بناء على ذلك، فكان مركز ثقافيّ ومركز صحّيّ.
إصراراها على خلق تنمية اجتماعيّة خلال عملها أهّلها للفوز بجائزة حسيب صباغ وسعيد خوري للهندسة في عام 2017.
ولكنّ نقطة التحوّل في حياتها المهنيّة كانت في عملها مع المهندس السويسريّ Peter Zumthor الحائز على جائزة "بريتزكر" (تعادل جائزة نوبل) في الهندسة، خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2006 و2010، بعد فوزها في مسابقة لمنظمّة الأمم المتّحدة للتربية والعمل والثقافة الـ"يونسكو" بالشراكة مع وزارة السياحة والآثار لترميم فسيفساء قصر هشام وحدائقه في أريحا.
حوّلت حبش حديقة القصر إلى حديقة خضراء، على غرار قصور الأندلس، على الرغم من وجوده في بيئة صحراويّة.
أضافت تجربة العمل مع Zumthor إلى مسيرتها المهنيّة الكثير، كما تقول، وهو ما أشارت إليه المجلّة خلال التعريف بها وبمؤهّلاتها: "كانت تجربة من الصعب تكرارها".
عملها مع Zumthor أهّلها لتكون من أهمّ المهندسين المعماريّين في فلسطين، ولتتنافس في عام 2016 للحصول على تمويل المجلس البريطانيّ وبالشراكة مع مكتب هندسيّ إيطاليّ لتعزيز الموروث المحلّيّ في بلدة السموع في أقصى جنوب الخليل.
بالحديث عن هذا المشروع، لمعت عيناها فخراً بما حقّقته، وقالت: "كان تطبيقاً مثاليّاً لما سعيت إليه طوال حياتي المهنيّة من خلق تغيّر وتنمية مجتمعيّة والحفاظ على إرث معماريّ في آن".
في بداية المشروع، كان على حبش وطاقمها إقناع الأهالي بأهمّيّة الترميم وإشراكهم في المشروع، ولكن مع الانتهاء منه في عام 2019، أصبحوا شركاء في عمليّة الترميم والحفاظ على 12 حوشاً وتحويل أحدها مركزاً شبابيّاً هو مركز السموع الثقافيّ الشبابيّ الذي أصبح خلال فترة قصيرة من أنشط المراكز في المنطقة.
تقول: "الترميم نفّذ بأقلّ التكاليف، إلى جانب تدريب الأهالي على طرق الترميم البدائيّة ليكونوا قادرين على القيام بذلك مستقبلا".
برعت حبش في عملها المستقلّ، إلّا أنّها لم تستطع الابتعاد عن العمل الأكاديميّ، ففي عام 2002، عادت كأستاذة منتظمة في كلّيّة الهندسة في بيرزيت ولا تزال حتّى الآن، ووفّرت لطلبتها فرص عمل وتدريب في هذه المشاريع.
وتعتقد حبش أنّه كان في إمكانها تقديم المزيد لو كان انفتاحها على العالم أسهل، فقد منعت من السفر من قبل السلطات الإسرائيليّة طوال 29 عاماً (1988-2017)، وعندما رفع حظر السفر، استطاعت أن تكون محاضراً في ندوات عربيّة وأجنبيّة وعضواً في لجان تحكيم لجوائز عربيّة وعالميّة.
ومن الجوائز العالميّة التي حصلت عليها أخيراً، وتعتقد أنّها دفعت في اتّجاه اختيارها ضمن الـ50 مهندساً مؤثّراً، جائزة تميّز للنساء في العمارة للشرق الأدنى وشمال أفريقيا في عام 2018.
عشقت حبش فنّ العمارة التقليديّ، فأبدعت فيه من خلال تطبيقها قاعدة اعتمدتها في كلّ مشاريعها، وهي أنّ التدخّل يجب أن يكون غير مرئيّ ولا يحدث تغيّراً ظاهريّاً.
ولكن بعد كلّ هذه السنوات من التعامل مع هذا النمط من البناء، هل صمّمت منزل الأحلام لها ولعائلتها؟ ضحكت حبش وأجابت: "العمل وفقاً لمحدّدات وطنيّة لا يجني أموالاً لبناء منزل بهذه المواصفات".