رام الله، الضفّة الغربيّة — تعكف وزارة الماليّة الفلسطينيّة في الوقت الراهن، على إعداد الموازنة العامّة لعام 2020، لعرضها للمناقشة أمام مجلس الوزراء لإقرارها، وتنسيبها إلى الرئيس محمود عبّاس للمصادقة عليها وإصدارها بقرار قانون لتصبح سارية المفعول، في ظلّ عدم القدرة على عرضها على المجلس التشريعيّ الذي صدر قرار من المحكمة الدستوريّة الفلسطينيّة بحلّه.
وقال رئيس الوزراء محمّد اشتيّة في تصريحات إلى تلفزيون فلسطين (رسميّ) في 4 كانون الثاني/يناير: "لن ندخل عام 2020 بموازنة طوارئ، ويتمّ الإعداد لموازنة كاملة متكاملة، وسنسير بالنهج ذاته الذي اتّبع في عام 2019، من ناحية الإدارة الماليّة".
يشكّل إعداد موازنة كاملة تحدّياً أمام الحكومة، التي ستكون الموازنة الأولى لحكومة اشتية، فالسلطة الفلسطينيّة لم تقرّ موازنة لعام 2019 بسبب قرار إسرائيل في شباط/فبراير 2019 اقتطاع نحو 502 مليون شيكل (145 مليون دولار) من إيرادات المقاصة الفلسطينيّة التي قالت اسرائيل انها تساوي قيمة رواتب الأسرى الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية وعائلات الشهداء التي تدفعها لهم السلطة، ومن ثمّ رفض السلطة استلام أموال المقاصة، قبل ان تتراجع السلطة الفلسطينية عن قرارها وتعود لاستلام اموال المقاصة بموجب اتفاق ابرمه وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ ووزير المالية الاسرائيلي موشيه كحلون في 3 تشرين اول/اكتوبر 2019.
والسبب الآخر استقالة حكومة التوافق الفلسطينيّة في 29 كانون الثاني/يناير 2019 والتي اعتمدت خطّة طوارئ لإدارة الأزمة، بصفتها حكومة تسيير اعمال حتى انتهاء تشكيل الحكومة الجديدة التي تشكّلت في نيسان/أبريل 2019.
وتبدو الخيارات أمام الحكومة لإعداد الموازنة قليلة جدّاً، نظراً إلى محدوديّة الإيرادات، والعراقيل التي تضعها إسرائيل، وأبرزها الاقتطاعات المتتالية من أموال الضرائب التي تجبيها لصالح السلطة الفلسطينيّة (أموال المقاصة)، فقد أقرّت إسرائيل في شباط/فبراير 2019 اقتطاع 500 مليون شيكل (144.5 ملايين دولار)، وعادت في كانون الثاني/ديسمبر 2019 لاقتطاع 150 مليون شيكل إضافيّ (43.3 ملايين دولار) ليرتفع المبلغ المقتطع إلى 650 مليون شيكل (187.8 ملايين دولار).
وتشكل أموال المقاصة الرافد الأهمّ لإيرادات السلطة الفلسطينيّة، وقيمتها قرابة الـ8 مليارات شيكل (حوالى 2.3 مليارات دولار)، وبالتالي اقتطاع إسرائيل أموال المقاصة سيتسبّب بهزّة قويّة لإيرادات الموازنة.
وقال اشتيّة تعليقاً على الاقتطاع: "الجانب الإسرائيليّ لا يريد لنا أن نتخلّص من الأزمة الماليّة، وعند اقترابنا من الخروج منها مع بداية عام جديد، أراد إعادتنا إلى المربّع ذاته، بزيادة الاقتطاعات من 500 مليون شيكل إلى 650 مليون شيكل"، مضيفاً: "سنتعامل مع كلّ قرش يصلنا وسندفعه إلى الموظّفين، ولن نستسلم للأزمة"، معرباً عن أمله أن يكون حجم المساعدات العربيّة والدوليّة في عام 2020 بالقدر الذي يساعد الحكومة على عدم البقاء في الأزمة.
وقال أمين عامّ مجلس الوزراء الفلسطينيّ أمجد غانم لـ"المونيتور": "نحن في حالة اشتباك ماليّ مع إسرائيل، لأنّ أموال المقاصة لا تزال تحت التهديد، لكنّنا مصرّون على التكيّف مع هذه الظروف والتخطيط لتوظيف المال العامّ في أفضل شكل".
تنظر الحكومة الفلسطينيّة إلى إعداد موازنة عاديّة على أنّه أمر ضروريّ، إذ قال غانم: "من المهمّ الخروج من موازنة الطوارئ إلى موازنة عاديّة على الرغم من الظروف الصعبة، لأنّنا نسعى إلى التخطيط المنهجيّ وتحديد أولويّاتنا وصرف الإيرادات الماليّة المتاحة وفق الأولويّات".
ومن المتوقّع أن تناهز قيمة موازنة عام 2020 مبلغ الـ6 مليارات دولار، علماً أنّ الموازنة العامّة الأخيرة التي أقرّتها حكومة فلسطينيّة وصادق عليها الرئيس عبّاس كانت موازنة عام 2018 وبلغت 5.8 مليارات دولار. وأضاف غانم: "لا توجد قيمة لحجم الموازنة، حيث من المتوقّع أن تستمرّ مناقشتها من مجلس الوزراء حتّى بداية شهر شباط/فبراير لتنسسيبها إلى الرئيس للمصادقة عليها".
تضع الحكومة أمامها خيارات لمواجهة العجز المتوقّع في موازنة عام 2020، إذ قال غانم: "نحن في مرحلة صعبة، ولذلك الحكومة تتّجه إلى زيادة الإنتاج المحلّيّ في الصناعة والتصدير والزراعة، ورفع مستوى التجارة الخارجيّ، لزيادة الإيرادات".
ونفى غانم أن يكون لدى الحكومة أيّ توجّه لزيادة الضرائب، قائلاً: "ستكون هناك خطّة لتحسين جباية الضرائب أفقيّاً لتشمل المواطنين غير الملتزمين بالدفع وملاحقة المتهرّبين"، لافتاً إلى أنّ الحكومة ستحرص من خلال الموازنة على الاهتمام بالشباب، وتطوير الخدمات الذكيّة والإلكترونيّة، ودعم خطّة العناقيد الزراعيّة والصناعيّة والسياحيّة، وجلب الاستثمارات الخارجيّة.
وتبدأ السنة الماليّة حسب المادّة الأولى من قانون تنظيم الموازنة العامّة والشؤون الماليّة لعام 1998 من 1 كانون الثاني/يناير، وتنتهي في 31 كانون الأوّل/ديسمبر.
بدوره، قال وزير العمل والتخطيط الفلسطينيّ السابق وكبير باحثي معهد أبحاث السياسات الاقتصاديّة الفلسطينيّ-ماس سمير عبد الله لـ"المونيتور" إنّ هامش التحرّك لدى الحكومة في إعداد الموازنة ضيّق جدّاً، فـ60% من الموازنة للرواتب، و20% من الموازنة للنفقات الاستهلاكيّة، وبين 7 و10% للتحويلات الاجتماعيّة للعائلات الفقيرة، وبالتالي ما يتبقّى للتنمية ليس سوى القليل، مضيفاً: "سواء كانت موازنة عاديّة أم موازنة طوارئ، فلن يختلف الكثير في وضعنا الماليّ الصعب".
وأضاف عبد الله: "إسرائيل تمارس سياسة الصدمة الماليّة للسلطة الفلسطينيّة كي تربكها وتبقيها في أزمة متواصلة، في العام الماضي اقتطعت إسرائيل 500 مليون شيكل من أموال المقاصة، وعندما تكيّفت السلطة الفلسطينيّة مع ذلك، رفعت إسرائيل المبلغ المقتطع إلى 650 مليون شيكل، ممّا جعل الحكومة في وضع لا تحسد عليه".
وأوضح عبد الله أنّ الحكومة ليست لديها خيارات لمواجهة أزمتها، قائلاً: "السلطة ملزمة بالتكيّف مع أوضاعها، بخفض نفقاتها، خصوصاً أنّها لا تعوّل على أحد لمساعدتها، نظراً إلى الدعم الدوليّ المتذبذب".
من جانبه، قال رجل الأعمال والخبير الاقتصاديّ سمير حليلة لـ"المونيتور" إنّ أكبر تحدٍّ أمام الحكومة في إعداد الموازنة هو مواجهة إجراءات إسرائيل وتحكّمها في أموال المقاصة، لافتاً إلى أنّ إسرائيل قد تقدم على اقتطاعات ماليّة إضافيّة خلال العام الجاري.
وحول أهمّيّة إعداد موازنة عامّة للحكومة بدلاً من موازنة طوارئ، قال حليلة: "هذا يعكس تصميم الحكومة على العمل، وتحديد أوجه صرف المال حسب الخطط المقرّة من قبلها، على أمل أن تجد الحكومة الوسائل لاستمرار تدفّق المال للموازنة حتّى نهاية العام الجاري"، متابعاً: "الحكومة الحاليّة لديها وضوح في الرؤية وعزيمة، لكن ليست لديها قدرة على تنفيذ التزامتها".
وأضاف: "لا أتوقّع تغيير الوقائع على الأرض في شكل كبير، أو تطبيق لرؤية الحكومة ووعودها، بسبب الظروف التي نعيشها، فأزمة المقاصة متدحرجة والدعم الدوليّ انخفض، ومن أجل مواجهة العجز الماليّ، ستضطرّ الحكومة إلى التحرّك نحو الدول العربيّة أو المستوى الدوليّ".