قامشلو — يرصد مقطع فيديو نشر في 12/10/2019 انتشار فصائل من الجيش الوطنيّ التابع للمعارضة السوريّة في بلدة سري كانيه الكرديّة. وتقدّمت إلى داخل المدينة قوّات تدعمها تركيا في اليوم نفسه ضمن العمليّة العسكريّة التي أطلقت عليها تركيا اسم "نبع السلام". وادّعى "المرصد السوريّ لحقوق الإنسان" من مصادر أسماها بالموثّقة، أنّ الفصائل الموالية لتركيا تعمل على مصادرة منازل المهجّرين من المنطقة، ولم تكتف بتلك الانتهاكات، بل عمدت إلى مصادرة مشاريع المدنيّين الزراعيّة، ومصادرة الجرارات الزراعيّة وصهاريج المازوت وسرقتها.
لقد قرّر المهندس محمّد علي أبا نوروز (67 عاماً) تفقّد مدينته، كما قال للمونيتور فعاد لزيارتها في 23/11/2019، وتوقّف عن الحديث، مشعلاً سيجارته حزناً على وداع مدينته وفقدانه لأصدقائه، وبدت عليه ملامح عن فقد عزيز على قلبه، وقال: "ليست القصّة بحجم الأملاك المنهوبة، وإنّما بالسؤال عن سبب اختيارهم مدينتنا الوادعة هذه. ليس من السهل أن يمنع عليك الإقامة، حيث نشأت وكبرت وتركت خلفك ذكرياتك ولحظات الحياة بحلوها ومرّها".
حاول محمّد علي أبا نوروز تمالك نفسه، وهو يتحدّث عن البؤس الذي شاهده. لقد كانت الرحلة صعبة جدّاً، فحاجز الإدارة الذاتيّة ما قبل المدينة كان يعرقل عمليّة الوصول إلى المدينة، وتحجج أحد المسؤولين أنّ الدخول إليها ممنوع، لكنّي استطعت الوصول إليها، فمرّرنا بـ7 حواجز للمسلّحين المحسوبين على المعارضة السوريّة، وأحد الحواجز كان يسأل عن وجود أحد من المكوّن الكرديّ ضمن ركّاب الحافلة، وتمّ التحقيق معهم، ثمّ أكملنا الطريق".
بعيونه الحائرة والمتحسّرة على مدينته سري كانيه، تحدّث أبا نوروز عنها، فوصفها بمدينة السلام في سوريا، وقال: "كنت قد أغلقت باب منزلي بشكل محكم، وكان مفروشاً بشكل ممتاز. وقفت أمام بشاعة المشهد، فكانت الأبواب وأثاث المنزل مكسّرة، وتمّ نهب وسرقة ما غلا ثمنه، وهو المشهد عينه في كلّ الأحياء الأخرى، حيث بعضها محترق، وبعضها الآخر مهدّم، فتمّ نهب المحلاّت وحرق المولات وقال لي أحدهم، ما أن تصبح الساعة السادسة، حتّى يتمّ فرض حظر التجوال وإطلاق النار بكثافة، وبعدها تصبح أصوات فتح أبواب المحلاّت وواجهاتها مسموعة لدى الجميع، حيث السرقة والنهب. بعض المحلاّت والعقارات لم يبق لها أثر، حتّى هيكل البناء تمّت تسويته بالأرض. شاهدت مطعمين صغيرين يعملان، ويبدو أنّهما يعملان لتلبية حاجات تلك الفصائل. زرت منزل والدي، حيث تمّ العبث بالأثاث وتكسيره وسرقة الكهربائيّات".
لقد رغب أبا نوروز في أن يتحدّث عن ألمه عبر "المونيتور"، وقال: "إنّه ظلم كبير على الكرد، فالكلّ يتفرّج علينا. المجتمع الدوليّ والأميركيّون وقوّات التحالف كلّهم خذلوا الكرد، فنحن نتعرّض إلى تطهير عرقيّ".
تعتبر مدينة سري كانيه/رأس العين من أكثر المدن الكرديّة تعرّضاً للهجمات والمعارك. ففي 9/11/2019، دخلت مجموعة مسلّحة أطلقت على نفسها اسم "غرباء الشام"، وبالمشاركة مع "جبهة النصرة"، سيطرتا على الجهة الشماليّة للمدينة.
وقال جوان (49 عاماً)، وهو من أهالي سري كانيه، والذي لجأ إلى القامشلي، خلال حديث لـ"المونيتور": "أنا على مشارف الخمسين عاماً، استطعت أن أعمّر داراً بعد عملي لعقد ونصف عقد في الخليج، هكذا وبلمح البصر انتهى كلّ شيء، دخلت إلى المدينة في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، ووصلت إلى منزلي الذي غيّرت الفصائل المسلّحة قفل بابه، فطرقت الباب بقوّة، وخرج رجلان ملتحيان وصوّبا البندقيّة باتّجاه صدري، وطلبا منّي الرحيل. طلبت منهم أخذ بعض الأوراق التي تخصّني، فطلبوا مبلغ 600 دولار لقاء حصولي على أوراق التمليك وما يخصّ عملي في التجارة والزراعة. وأيقنت أنّ لا أمل في استرداد منزلي. وقبل أن أغادر قالا لي: لن نقبل بأن تسكن زوجاتنا في الخيم وأنتم في البيوت، سنجلب عوائلنا إلى هنا".
زار "المونيتور" النازح أبو جميل، أسم مستعار، (52 عاماً)، الذي استأجر منزلاً بعد خروجه من مدينته، وقال: "اتّخذت قراراً بزيارة المدينة. لقد تعذّبنا كثيراً في الطريق، خصوصاً أنّ الكتائب والفصائل المسلّحة تجبر المتوجّهين إلى سري كانيه بالتوقّف على حواجزهم مطوّلاً، ثمّ يبدأون بطلب الأموال، خصوصاً من الكرد".
ووصف أبو جميل مدينته، قائلاً: "لم أر بشاعة كهذه، ثمّة مظاهر جديدة للمدينة. محلاّت منهوبة، بيوت مسروقة، وبناء مدمّر بفعل القذائف أو الاشتباكات بين المتحاربين، لا مظاهر للحياة، ومن يحتاج إلى شيء فعليه الذهاب إلى منطقة تلّ حلف، التي تبعد بضع كيلومترات عن سري كانيه، لكن لا وسائل للنقل، ولا بدّ من موافقة الفصائل العسكريّة للوصول إلى تلّ حلف".
وعن منزله، قال: "لم أعرف هذا المنزل، هل هو نفسه الذي عشت فيه قرابة 20 عاماً أم أنّه منزل تمّ تشييده أخيراً ويحتاج إلى أثاث للعيش؟ لقد تمّ إفراغ منزلي بالكامل".
تحدّث أبو جميل ودموع الاشتياق في عينه، وقال: "لا تعرف من هو القائد، أو صاحب القرار. في كلّ شارع أو حيّ أو منطقة، فصيلة تختلف عن الأخرى، ولكلّ فصيلة قرار يختلف عن الأخرى. لا أمل في عودتنا طالما بقيت تلك الكتائب المسلّحة في المدينة. قيل لي إنّ تركيا وروسيا ستشكّلان شرطة عسكريّة لضبط المدينة وعودة أهالي سري كانيه إليها".
وأشار إلى أنّه لم يستطع البقاء أكثر من 3 ساعات فقط، وقال: "لم أتمالك نفسي، منزلي ومنازل كلّ من عرفتهم من الأصدقاء والأهل إمّا مهدّمة وإمّا مسروقة. منطقة الصناعة مفرغة من الآليّات والعدّة الصناعيّة المستعملة في صيانة المركبات والسيّارات، فكيف أبقى هناك؟ أمّا ما لفت انتباهي فهو تكرار عبارة محجوز للعوائل على جدران بعض المنازل. وعلمت بعد ذلك أنّها محجوزة لعوائل تلك الفصائل المسلّحة المحسوبة على المعارضة السورية والمدعومة من تركيا".
من جهته، قال الطبيب سعيد الذي اكتفى بإعطاء هذا الاسم، الذي نسي اصطحاب جهاز الحاسوب الشخصيّ أثناء الخروج من المدينة في لحظة الحرب: "اتّصل بي شخص لا أعرفه، ربّما حصل على رقمي المدوّن في لافتة العيادة، فقال لي نحن في منزلك الآن، لا تعد إليه مرّة أخرى، طلبت منه اللاّب توب، فطلب مني مبلغ 1200 دولار، وضحكت كثيراً إذ أنّ سعره قبل الاستعمال أقلّ بكثير".
وبحسب بعض المراقبين، فإنّ مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في سري كانيه تبلغ 1,440,000 دونم، عدا عن عشرات الصوامع ومئات آلاف الأطنان من البذار والأسمدة التي بقيت في تلك الصوامع، ويقول أهالي سري كانيه إنّها نهبت كلّها.