قامشلو: يتنهّد الأكاديميّ الكرديّ حسن طاهر وهو يتحدّث إلى "المونيتور" عن الأوضاع المعيشيّة للمواطنين، وهو الذي يعمل في مؤسّسة للحبوب في قامشلو، فيقول: "أرغب في أن أصف العام الحاليّ بعام المآسي والأحزان، لما شهدته مناطقنا من قتل وقذائف وهجرة وتشريد للأسر والعوائل. كانت ابنتي وزوجها وأطفالهما يعيشون إلى جانبنا، وبسبب ظروف الحرب، هاجروا إلى كردستان، أشتاق إلى حفيدي أشا ومحمّد كثيراً، يمكنني أن أسمّي هذا العام بعام الفقر والحرمان، يكاد لا يوجد منزل من دون وجود مهاجر أو مريض أو شهيد أو قصّة حزن عميقة. معدّل العنوسة مرتفع جدّاً بسبب هجرة الشباب أو عزوفهم عن الزواج، بسبب الأوضاع المادّيّة الصعبة جدّاً. حرقت مئات الآلاف من الهكتارات الزراعيّة، وانعدمت الموارد الماليّة، وقد أثّر كلّ ذلك على نفسيّة الناس وتعاملهم مع بعضهم البعض، ولم تتمكّن غالبيّتنا من تحقيق طموحاتنا، بل أنّ الظروف التي عشناها أنهت طموحاتنا، ومع ما تشهده منطقتنا من نزوح لأهالي سري كانيه وكري سبي وعفرين والخطر المحدق بالأكراد، كيف لنا أن نكون سعداء. لا مكان للفرحة في قلبونا، طالما صرخات الأطفال ترتفع في مخيّمات اللاجئين، ربّما علينا ألّا نستسلم وأن نحاول بكلّ قوّتنا إيجاد فسحة للأمل، لكنّها ضعيفة أيضاً".
يبدأ سيبان علي (31 عاماً) بفرد بضاعته أمام محلّه لبيع الثياب النسائيّة والأطفال، ويقول بوجه عبوس لـ"المونيتور": "الحزن يخيّم علينا كلّنا، فالحرب لم تنته بعد، والناس لا يملكون ما يسدّون به حاجاتهم الأساسيّة اليوميّة، فكيف لهم بشراء المنتجات والثياب للعام الجديد. انظر إلى الأسواق، هناك من يتسوّق لكن لا يستطيع الشراء بسبب غلاء الأسعار".
وتشهد قيمة العملة السوريّة هبوطاً متزايداً في حركتها في شكل يوميّ أمام سعر الدولار، ممّا يشكّل عبئاً إضافيّاً على المواطن السوريّ، خصوصاً شريحة الفقراء والموظّفين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة السوريّة، كحال المدرّس أيمن (37 عاماً) الذي يتجوّل في الأسواق برفقة زوجته وبناته الثلاث، ويقول أيمن: "راتبي كمدرّس لدى الحكومة السوريّة 52 ألف ليرة سوريّة، وراتب زوجتي في مدارس الإدارة الذاتيّة مئة ألف ليرة سوريّة، أي بالكاد 150 دولاراً. منذ يومين، ونحن نتجوّل في الأسواق، الأسعار عالية جدّاً ولا يمكننا شراء ملابس جديدة لبناتنا. بناتي صغيرات ويطالبن بشجرة الميلاد مع قطع الزينة التي يبلغ ثمن أصغرها 50 دولاراً، ومع مستلزمات سهرة ليلة الميلاد نحتاج أيضاً إلى ما لا يقلّ عن 80 أو 100 دولار. لا يمكننا صرف راتبنا على الطعام فقط.
أمّا البائع حسين سلو، وهو صاحب محلّ لبيع الأحذية الرجّاليّة، فيقف أمام محلّه منادياً على المارّة لزيارة المحلّ، ويقول: "حقيقة، ليست لدينا أنواع جديدة والبضاعة غير متوافرة، وذلك بسبب عدم استتباب الأمن وخوف أصحاب البيع بالجملة والمحلّات من قيام الجيش الوطنيّ التابع إلى المعارضة السوريّة وبمساندة القوّات التركيّة بشنّ هجوم آخر على المنطقة بعد سري كانيه وكري سبي". ويرصد مقطع فيديو نشر في 12 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 انتشار فصائل من الجيش الوطنيّ في مدينة سري كانيه الكرديّة. ويضيف سلو: "أسعار شحن البضائع من دمشق وحلب غالية جدّاً، وسعر الدولار يؤثّر علينا في شراء المنتجات، ويؤثّر بالتالي على المشتري، والاستعدادات ليست كالعام الماضي، لصعوبة الواقع المعيشيّ الذي يفرض نفسه على ظروف الاحتفال والاستعداد لاستقبال العيد، ناهيك عن هاجس الخوف الموجود لدى الشعب من خرق أمنيّ آخر ووقوع تفجيرات".
والتقى "المونيتور" الحاج أحمد كريمي (61 عاماً) الذي وضع كمّيّات من الحلويات وأنواع مختلفة من المأكولات والموالح أمام محلّه في السوق المركزيّ في قامشلو: "عام سيّئ جدّاً، العام المنصرم في مثل هذا اليوم، كنّا قد بعنا أكثر من نصف البضاعة، يؤلمني جدّاً أن أشاهد الأطفال يتفرّجون على هذه الأنواع ولا يستطيع أباؤهم شرائها لهم، أحياناً نقدّم شيئاً منها مجّاناً للأطفال، لكنّ الفرحة والسعادة في استقبال العام الجديدة غائبتان في شكل كبير هذه المرّة، أيّام وينتهي العام الحاليّ، ووفق ما أشاهده من ضعف الشراء في الأسواق، أعتقد أنّ لا فرحة ولا احتفالات كباقي الأعوام".
وفي حيّ الوسطى ذات الغالبيّة المسيحيّة، التقى "المونيتور" خبيرة التجميل أوركينا صومي التي تقول: "كوني أعمل في مركز مقصّ للتجميل والعناية بالبشرة، في قسم الماكياج، فأنا على احتكاك يوميّ بالنساء اللواتي يتحدّثن عن همومهنّ حيث تتشابه أغلب القصص عن الحزن، والخوف من التفجيرات، وعدم الابتهاج باحتفالات عيد الميلاد، وضعف حركة السوق، وغلاء المعيشة، فعادة كانت النساء والصبايا يقبلن على تنظيف البشرة والـ"تاتو" والماكياج قبل الأعياد، لكن هذا العام، قلّت الحركة كثيراً بسبب الأوضاع المعيشيّة الصعبة والحزن المخيّم على الناس، نتيجة الحرب التركيّة على المنطقة". ويبدو الحزن واضحاً في نبرة صوت صومي التي تدعو إلى الله لـ"يعمّ السلام كلّ سوريا، وأن تلتقي الأسر بأبنائها المهجّرين وأن تعود حركة الأسواق من جديد".
أمّا السيّدة أمّ خالد (42 عاماً)، وقد طلبت عدم ذكر اسمها، فتقول: "لا أريد شيئاً من عام 2020 سوى أن أعود إلى بيتي في سري كانيه، وأن يعود أبنائي وبناتي المهاجرين إلى كردستان والنمسا، لكي نجتمع من جديد، وهو الاحتفال الأعظم في حياتي".
يقول تاجر العطور ومواد التجميل بختيار رسول (50 عاماً) لـ"المونيتور": "سابقاً، كان المسافرون والمغتربون يرغبون في أن يقضوا أمسية ليلة الميلاد في مدينتهم قامشلو، وكانت الأجواء العائليّة مميّزة، وسماء المدينة تتزيّن بالمفرقعات والألعاب الناريّة، وأغلب الأسر يلتأم شملها حول مائدة غنيّة بمختلف الأطعمة، وكنّا نشعر بأنّ مدينتنا هي أجمل المدن في العالم، نتواصل مع الجيران ونتبادل وإيّاهم التهاني والحلويات التي صنعت في المنازل". يعود رسول بذاكرته إلى الأعوام الماضية ويسرد بعض تفاصيل الاحتفال لدى الأكراد، فيقول: "لم يكن لدينا في تراثنا أن يزورنا بابا نويل برمزيّته، ولم يكن أطفالنا ينتظرون أن يزورهم بابا نويل ويجلب لهم الهدايا، فقد كان لنا كشباب أكراد طقس خاصّ، حيث نجول على البيوت متنكّرين، ونردّد معاً: "من رأس السنة وإلى نهاية السنة إن شاء الله تحظى عروسة هذا المنزل بمولود ذكر، فنحصل على بعض المال والهدايا والأطعمة".
لكن وبحسب رسول، فإنّ الفرحة معدومة هذا العام، حيث يقول: "لم تعد لدينا رغبة في الفرح، بل وفي كلّ عام، نقول إنّ العام الذي سبقه كان أفضل، وهذا العام نعيش مأساة مزدوجة، فحين أجد النازحين من سري كانيه وعفرين وكري سبي يتحدّثون إلى بعضهم البعض في الأسواق، أشعر بالغصّة والانكسار الذي حصل للأكراد، لقد نسينا كيف نضحك، بل حتّى أبناؤنا تأثّروا بنا ولم تعد الفرحة والابتسامة ترتسمان على شفاههم". ويشرح رسول حركة الأسواق، وهو من أقدم تجّار الجملة في المحافظة: "حركة السوق ضعيفة جدّاً، فالناس غير مهيّئين للفرحة، والارتفاع المرعب للدولار غيّب الاستقرار في السوق وقلّل من نسبة الشراء والقوّة الشرائيّة، خصوصاً وأنّ الناس متخوّفون من المستقبل، ممّا يدفعهم إلى الاحتفاظ بما يملكون من أموال، عوضاً عن الاحتفال".
بين فرحة أعياد الميلاد ومآسي الحرب والهجرة والتفجيرات، تبقى مكوّنات المنطقة الكرديّة في سوريا، بأكرادها وسريانها وآشوريّيها وعربها، رهينة الحيرة والتفكير بمستقبل المنطقة ومآلاتها.