سوريا - مدينة الشدادي: تفاقمت ظاهرة عمالة الأطفال الذين يعملون لساعات طويلة في ظروف بائسة واستغلاليّة في شكل خطير في مدينة الشدادي الواقعة على بعد 60 كيلومتراً جنوب محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، كغيرها من مدن الجزيرة السوريّة خلال الحرب السوريّة التي دخلت عامها التاسع.
فصهيب جابر (13عاماً) يفرش منذ ساعات الصباح الباكر بضاعته من التوابل على رصيف أمام محلّ للحلاقة في مدينة الشدادي، ويقضي 10 ساعات متواصلة لبيع أكياس التوابل ليقوت عائلته.
يقول جابر لـ"المونيتور" إنّه أصبح المعيل الوحيد لأمّه وإخوته الثلاثة بعدما قتل والده على يد تنظيم "داعش" إبّان احتلاله البلدة في أيّار/مايو 2014، وهو أحد مئات الأطفال السوريّين الذين فقدوا آباءهم خلال الحرب السوريّة، والكثيرون منهم أجبروا على ترك مقاعد الدراسة، باحثين عن عمل قد يسدّ رمقهم ورمق عوائلهم في ظلّ تدنّي المستوى المعيشيّ للمواطن السوريّ وارتفاع الأسعار.
وعلى بعد شارعين من جابر، يقف محمّد حسين (14 عاماً) أمام منقل لشواء اللحم في أحد المطاعم ويتحدّث إلى "المونيتور" عن أنّه مارس خلال 5 سنوات عدداً من المهن، وأنّ عمله في المطعم منهك وطويل ويبدأ دوامه عند الثامنة صباحاً وينتهي عند السابعة مساء، يقضيها في شواء اللحم وتنظيف المطعم وغسل الأطباق، ويتقاضى أجرة أسبوعيّة وقدرها 5 آلاف ليرة سوريّة، ما يعادل اليوم 5 دولارات، وتأسف جدّة حسين الحاجة عنود التي التقاها "المونيتور" على تحمّل حفيدها مسؤوليّة إعالتها وإخوته بعد اختفاء والده على يد مسلّحي تنظيم "داعش" وعدم معرفتهم بمصيره حتّى اليوم وزواج والدته بآخر، وتركت أطفالها وقالت: "ما كنت أعرف ما الذي سأفعله لولا الأجرة التي يتقاضاها حفيدي، فهي وإن كانت قليلة، لكنّها تؤمّن لنا بعض الحاجيّات الأساسيّة، عدا عن حصوله على بعض الوجبات، الأمر الذي أغنانا عن الحاجة".
وعبّر حسين عن اشتياقه لمقاعد الدراسة، لكنّه وضّح استحالة عودته لإكمال دراسته بعدما تركها، وهو لم يتمّم الابتدائيّة، مضيفاً أنّ أقرانه من الطلّاب ممّن في عمره يدرسون اليوم في الصفّ الثالث الإعداديّ.
وبيّنت ناشطة في منظّمة DOZ للطفولة في مدينة الحسكة، رفضت الكشف عن اسمها، لـ"المونيتور" ارتفاع نسبة الأطفال العاملين في مهن تفوق قوّتهم البدنيّة، مشيرة إلى عدم توفر احصائية دقيقة لأعدادهم وإلى استغلالهم من قبل أرباب العمل، في ظلّ عدم الرعاية الكاملة لهم من أيّ جهة رسميّة أو خيريّة.
وعن أسباب تلك الظاهرة، قالت: "مفرزات الحرب التي تمرّ بها البلاد، ولا سيّما الظروف الاقتصاديّة، لها دور كبير في هذه المسألة، وكذلك سيطرة تنظيم "داعش" وتحكّمه بالعمليّة التعليميّة"، وأشارت أيضاً إلى الدور السلبيّ لبعض الآباء وتأثيرهم على ذهاب أبنائهم إلى العمل بدلاً من المدرسة، مضيفة أنّ غالبيّة الأعمال التي يمارسها أطفالهم متعبة وشاقّة ولا تتلاءم مع بنيتهم الضعيفة، فمنهم من يعمل في الميكانيك وتصليح السيّارات ونقل البضائع وتحميلها، وهي تحتاج إلى قوّة جسديّة وعضليّة كبيرة، مشيرة إلى تأثير ذلك على صحّتهم وعلى العمليّة التعليميّة لهم وضياع مستقبلهم.
وعلى الرغم من افتتاح المدارس، إلّا أنّ نسبة عمالة الأطفال لم تتضاءل وارتفعت معها نسبة الأمّيّة بين الأطفال لأسباب يرجعها عضو المجلس المدنيّ للشدادي خليل خضر قال لـ"المونيتور": إلى فترة حكم "داعش" للبلدة واعتقاله المدنيّين وقتلهم وإغلاق معظم مدارس المدينة وافتتاحه مدارس درّست مناهجه وخدمت فكره المتشدّد، أدى لارتفاع نسبة عمالة الأطفال وقال: "فقدت عوائل عدّة معيلها الوحيد، فمنهم من أعدمهم التنظيم أو اعتقلهم، وما زال مصير بعضهم مجهولاً حتّى اليوم، فتحمّل أطفالهم مسؤوليّة رعاية الأسرة، إلى جانب تخوّف الأهالي وقتذاك من تشرّب أبنائهم أيديولوجيا "داعش" المتشدّدة، فمنعوا أطفالهم من دراسة المناهج التعليميّة للتنظيم الذي سيطر على العمليّة التعليميّة والمدارس، وفضّلوا بدل ذلك أن يمارس أولادهم مهناً تفوق قدراتهم الجسديّة أو إبقاءهم في المنزل، ممّا زاد في ارتفاع نسبة عمالة الأطفال في المدينة، فارتفعت معها نسبة الأمّيّة التي لا نملك ارقام حقيقية عنها".
وحول التدابير التي اتّخذها المجلس المدني للحدّ من الظاهرة، قال: "لا يمكننا منع الأطفال من العمل، أولئك الذين تعتمد عليهم عوائلهم في تأمين مورد عيشهم، وإجبارهم على الالتحاق بالمدارس، كما أنّ العديد منهم تأخّروا في المراحل التعليميّة مقارنة بأقرانهم ممّن ما زالوا يتابعون دراستهم".
وفي منتصف كانون الثاني/يناير من العام الجاري، حذّرت لجنة التحقيق الدوليّة المستقلّة من الوضع المروع للتعليم في سوريا، وقالت في تقرير نشرته تحت عنوان "لقد محوا أحلام أطفالي" حول الانتهاكات الصارخة التي خلّفتها الحرب السوريّة خلال السنوات الثماني الماضية للحقوق الأساسيّة للأطفال، من بينها القتل واليتم والحرمان من التعليم، وكشف التقريرعن تدمير آلاف المدارس أو استخدامها لأغراض عسكريّة وحرمان أكثر من 2.1 مليون طفل من الجنسين من المدرسة.
من جانبه، حذّر الاستشاريّ النفسيّ محمّد علي عثمان الذي التقاه "المونيتور" من تنامي ظاهرة عمالة الأطفال وازديادها، ولفت بقوله: "يتعرّض الأطفال العاملون إلى الخطر، وإلى الاستغلال الجسديّ والنفسيّ والماديّ وغيره، كما أنّهم يكتسبون عادات وسلوكيّات سيّئة وعلاقات غير سويّة"، مشيراً إلى تأثير عمالتهم على وضعهم النفسيّ والاجتماعيّ والصحّيّ وتحوّلها إلى كارثة حقيقيّة في المستقبل القريب، داعياً خلال حواره إلى أهمّيّة تكاتف القطاعات كافّة لبذل جهود موحّدة لتصميم برامج مشتركة للحدّ من هذه الظاهرة".