في الأول من ديسمبر / كانون الأول، صدر عن مكتب المدعي العام في اسطنبول أمرا بالقبض على غراهام فولر، الذي قدمته وسائل الإعلام التركية على أنه "مسؤول سابق في المخابرات المركزية الأمريكية"، أو بطريقة أكثر استفزازية، "وكيل وكالة المخابرات المركزية". وتم اتهام فولر بـ" محاولة الإطاحة بحكومة جمهورية تركيا وعرقلة مهامها". بعبارة أخرى، تم اتهامه بالتورط في محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تموز / يوليو 2016 ضد حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان.
إلا أن هذه المزاعم بغاية الغرابة لكل من يتابع التطورات على أرض الواقع. صحيح أن فولر كان يعمل لدى وكالة المخابرات المركزية في الثمانينيات كضابط للاستخبارات الوطنية في الشرق الأدنى وجنوب آسيا، إلا أنه تقاعد من الوكالة في عام 1988 لينضم كمحلل إلى مؤسسة راند البحثية. في عام 2006، تقاعد من هذه الوظيفة وانتقل إلى فانكوفر، كندا للانضمام إلى جامعة سيمون فريزر كأستاذ تاريخ مساعد. وهو يبلغ اليوم 80 عاما، وقد كرس في الآونة الأخيرة نفسه إلى الكتب والروايات ومدونته السياسية.
يُذكر أن فولر انتقد الاسلاموفوبيا في الولايات المتحدة انتقادا قويا، قائلا إن دولا مثل تركيا لها الحق في اتباع سياسة خارجية مستقلة عن واشنطن، وذهب حد دعم حكومات اردوغان المتعاقبة لفترة طويلة إلى أن خاب أمله - تماما كسائر المراقبين الغربيين الذين وضعوا آمال كبيرة على تركيا. وصحيح أيضا أن فولر قد أعرب عن تعاطفه مع مناصري غولن، حتى بعد الانقلاب الذي تم إلقاء اللوم عليهم فيه، ولكن ذلك بدا وكأنه ناتج عن علاقات التيار العامة.
لماذا قرر المدعون العامون التركيون إذا أن هذا الباحث البالغ من العمر 80 عاما والذي يعيش في كندا متورط في محاولة انقلاب تركيا؟
لطالما كان فولر الشخصية الأبرز في نظريات المؤامرة الوفيرة التي تتطرق إلى مخططات وكالة المخابرات المركزية الخاصة بتركيا. وقد بغضه اليسار التركي بشكل خاص جراء تعزيزه "الإسلام المعتدل" بدلا من العلمانية، وجراء كتاباته المتعلقة بالمسألة الكردية التي أغضبت القوميين.
إلا أن نظريات المؤامرة التركية تستند هذه المرة إلى مصدر أكثر متانة ألا وهو: الكسندر دوجين، المثقف الروسي القومي المتطرف والمعروف في الداخل والخارج على أنه منظر رئيس في نظام بوتين – وهو معروف بـ "راسبوتين بوتين". أسبوع واحد فقط قبل صدور أمر القبض على فولر، ظهر دوجين على قناة تركية مؤيدة للحكومة مباشرة من موسكو، وقال إن أجهزة المخابرات الروسية لديها "أدلة ملموسة على أن عملاء وكالة المخابرات المركزية قاموا بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة". وأضاف بكل فخر إنه تم تقديم هذه "الأدلة" إلى السلطات التركية.
في حين ما زالت الأدلة التي قدمتها المخابرات الروسية إلى الأتراك مجهولة، من السهل تكوين فكرة عنها استنادا إلى من يصدرون نظريات المؤامرة ويؤيدون روسيا مثل ف. وليام إنغدهل، وهو أمريكي مقيم في ألمانيا، علما أنه صرح لمؤسسة فكرية روسية يمينية في أغسطس / آب 2016 أنه "طوال ليلة الانقلاب، كان نائب الرئيس السابق لمجلس الاستخبارات الوطني التابع لوكالة المخابرات المركزية، غراهام اي. فولر، على جزيرة الأميرات التي تقع على بعد 20 دقيقة من اسطنبول، وكان يرصد التطورات بانتظام إلى أن فشل الانقلاب".
إلا أن الحقائق على الأرض تظهر أن فولر لم يكن على تلك الجزيرة في خلال الانقلاب. وهو يشير إلى أنه لم يزر تركيا في السنوات الخمس الماضية وأنه كان يتحدث إلى مجموعة من 100 شخص ليلة 15 تموز / يوليو 2016.
إلا أن عالم أمريكي آخر اسمه هنري باركي هو الذي كان تلك الليلة في بويوكادا التي تقع في جزيرة الأميرات ليشارك في ورشة عمل أكاديمية تم عقدها في فندق هناك لتتطرق إلى دور إيران الإقليمي، علما أن "نظريات المؤامرة المثيرة التي نشرتها الصحافة التركية المؤيدة للحكومة"، كما أوضح باركي في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز، وصفت المؤتمر على أنه "أكثر شناعة بكثير".
ويبدو أن إضافة فولر إلى هذا السيناريو هو إنتاج روسي تركي مشترك إذ أن الصحافة التركية الموالية للحكومة قد أسقطت هذه "المعلومات الملموسة" المتعلقة بهذه المسألة على مقابلة دوجين التلفزيونية التي وصف فيها القاعدة العسكرية الأمريكية في إنجرليك في جنوب تركيا على أنها مقر من مقرات الانقلاب داعيا تركيا إلى إعادة النظر في تحالفها مع الولايات المتحدة.
وليس ذلك سوى مثل واحد من وابل الأمثلة التي تظهر "التدخل الروسي" في تركيا الذي استمر منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، في حين تحاول مصادر الدعاية الروسية إبعاد تركيا عن الغرب من خلال إقناعها بمؤامرات وكالة المخابرات المركزية الشائنة، مستغلة بذلك ذعرها من الغرب.
ومن الأمثلة الأخرى التي سبق لي أن ذكرتها في مقال تم نشره في موقع "المونيتور" مقالة زائفة يفترض أن سفير أمريكي متقاعد كتبها ليصور البطريركية المسكونية في اسطنبول – وهي منافسة لاهوتية للكنيسة الروسية – على أنها "حصان طروادة الـسي آي أيه" الذي ساعد في تنظيم الانقلاب، فضلا عن مقال آخر زائف يفترض أن زبيغنيو بريزنسكي كتبه ليلوم فيه وكالة المخابرات المركزية على القيام بـ "خطأ فادح" في تنظيم انقلاب فاشل في تركيا.
وبينما يضغط الدعاة الروس على الشعب والحكومة التركية بهذه الرسائل، يسعى من جهته "لوبي روسي" تركي مكون من ماركسيين سابقين تحولوا إلى قوميين إلى تضخيم هذه المعلومات. وكعنصر صاعد في البيروقراطية ووسائل الإعلام، يدعو هؤلاء "الأوراسيون" إلى انفصال كامل عن الغرب، وذلك من خلال إزالة القاعدة العسكرية الأمريكية في جنوب تركيا، ومغادرة حلف شمال الأطلسي وقطع جميع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي - وفي النهاية، التحول إلى "قمر صناعي روسي"، كما كان ليطلق عليه في أثناء الحرب الباردة.
وعلاوة على ذلك، فإن تركيا نفسها تمر بعاصفة تزيد من جاذبية الخيار الروسي لها، إذ لم يكن تورط غولن في محاولة الانقلاب أسطورة، كما قلت سابقا، ولدى أنقرة قضية مشروعة هناك. لكن رد فعل تركيا الشديد والوحشي على الانقلاب، بما يتضمن عمليات التطهير الواسعة التي سرعان ما استحالت مطاردة محض ساحرة، هي عوامل تقلل من قدرة تركيا على الإقناع، ما يساعد مناصري غولن على التحرك بحرية في الغرب ويزيد الأتراك قناعة بأن مناصري غولن دمى تحركها الغرب.
كما أن "تحقيقات الفساد ذات الدوافع السياسية" التي أطلقها مناصرو غولن ضد حكومة أردوغان في كانون الأول / ديسمبر 2013، وعلى حد تعبيري آنذاك، يجري جزء منها الآن في نيويورك، ما يزيد من العدائية للأميركيين في عالم مناصري أردوغان.
لا شك أن روسيا لم تخلق الديناميات المعقدة التي لا تنفك تبعد تركيا عن الغرب، لكن يبدو أن روسيا تستفيد من هذا الوضع بشكل كبير. إن هدف الروس، وفقا لما جاء في مقال كتبه الخبيران هنري ماير وأونور أنت لبلومبرغ تحت عنوان "إبعاد تركيا عن الناتو وإبرام اتفاق روسي إسلامي يشمل إيران". وجاء في القال إن هذا جزء من استراتيجية بوتين الهادفة إلى "تفكيك النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة".
عادة ما يُتوقع أن تشعر الولايات المتحدة بالقلق إزاء كل هذا، إلا أن القيادة الأمريكية الحالية لا تبدو قلقة بشأن النظام العالمي المستقبلي ولا التأثير الروسي المتنامي فيه. لذلك تبدو العاصفة قوية جدا، وفي عينها تركيا التي يتم إبعادها يوما بعد يوم عن طموحها الذي يعود إلى ما يقرب من قرن من الزمان بأن تكون جزءا من الغرب الليبرالي، ليتم رميها في مياه مجهولة من الشرق غير الليبرالي.