قد تتحوّل المواجهة بين تركيا وسفينة حفر إيطاليّة في شرق البحر الأبيض المتوسّط إلى أزمة بسرعة. فكما أشرتُ في مقال في "المونيتور" في 26 كانون الأول/ديسمبر، كانت التطوّرات تنذر بارتفاع حدّة التوتّر بين تركيا والقبارصة اليونانيّين على خلفيّة اكتشاف احتياطات محروقات جنوبي الجزيرة.
وبالفعل، بدأت المواجهة العسكريّة المحتدمة الأولى لسنة 2018 في 9 شباط/فبراير بين القوّات البحريّة التركيّة وسفينة الحفر "سايبم 12000" التابعة لشركة "إيني" الإيطاليّة التي تملك رخصة من الإدارة القبرصيّة اليونانيّة من أجل التنقيب عن احتياطات المحروقات جنوبي الجزيرة. وبينما كانت السفينة تبحر من المنطقة المعروفة باسم "بلوك 6" جنوبي غرب الجزيرة باتّجاه "بلوك 3"، اقتربت منها سفن عسكريّة تركيّة على مسافة 5 أميال. فتوقّفت "سايبم 12000" على بعد 15 ميلاً بحريّاً تقريباً من وجهتها في "بلوك 3"، وهي منطقة تقع على بعد 70 كيلومتراً من ساحل كاب غريكو جنوبي غرب الجزيرة.
وفي 8 شباط/فبراير، قبل يوم واحد من المواجهة، أعلنت شركة "إيني" عن اكتشاف غاز خفيف (متبقٍّ) في "بلوك 6" قبالة قبرص. ووفقاً للشركة، يتمتّع البئر – الذي تمّ حفره بالماء على عمق 2074 متراً ووصل عمق الحفر النهائيّ إلى 3827 متراً - بصفات احتياطيّة ممتازة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الأسطول البحريّ التركيّ الذي منع "سايبم 12000" من التقدّم موجود في المنطقة منذ ثلاثة أشهر تقريباً.
وأصدرت الأركان العامّة التركيّة في 14 شباط/فبراير بياناً جاء فيه أنّ فرقاطة وسفينة حربيّة صغيرة وسفينة لنقل الوقود وزورقين هجوميّين اثنين تنفّذ مهامّ مراقبة في المنطقة كجزء من بروتوكول الأمن البحريّ التركيّ الهادف إلى ضمان النقل الآمن للنفط وصدّ المخاطر المحتملة.
وأشارت تقارير إلى أنّ غوّاصتين تركيّتين اثنتين على الأقلّ هما جزء من القوّة التركيّة، مع أنّ البيان لم يذكر ذلك. بالإضافة إلى ذلك، يعني وجود سفينة تركيّة لنقل الوقود أنّ الأسطول قد يبقى هناك لأسابيع ويعمل في المياه الدوليّة من دون الحاجة إلى خدمات مرفأيّة.
وترى أنقرة أنّ التوتّرات في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسّط ليست وليدة الصدفة. وهي تشعر بأنّ تحالف الغاز الطبيعيّ بين اليونان والقبارصة اليونانيّين وإسرائيل ومصر لديه مخطّطات دبلوماسيّة واقتصاديّة وعسكريّة – إدراكاً منه للثغرات في القدرات العسكريّة التركيّة منذ محاولة الانقلاب في تموز/يوليو 2016 ومشاركة تركيا العسكريّة في سوريا وعزلتها المتزايدة.
ولم يتفاجأ أحد عندما قام رئيس هيئة الأركان التركيّة، الجنرال خلوصي آكار، في 9 شباط/فبراير بزيارة بارزة حظيت بتغطية إعلاميّة واسعة إلى منطقتي إيجه والبحر الأبيض المتوسّط، برفقة قادة من القوّات البحريّة والجويّة والبريّة التركيّة، بهدف مراقبة الوضع الحاليّ للجيش التركيّ وتفقّده.
وخلال تلك الزيارة، قال آكار للصحافيّين إنّ الجيش التركيّ قادر على تولّي كلّ شيء، أي الاستمرار في عمليّته العسكريّة في عفرين وفي جهود وقف التصعيد حول إدلب في سوريا، وفي الوقت نفسه تنفيذ عمليّات لمكافحة الإرهاب ضدّ حزب العمّال الكردستانيّ داخل تركيا والتدخّل في التطوّرات في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسّط.
وقال آكار: "نحن نراقب عن كثب التطوّرات في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسّط".
وبدا واضحاً من تصاريح آكار أنّ المسافة القريبة والخطيرة بين السفن التركيّة وسفينة "سايبم 12000" بالقرب من "بلوك 3" لم تحصل بالصدفة، بل كانت عبارة عن رسالة "دبلوماسيّة" إلى القبارصة اليونانيّين وإيطاليا والاتّحاد الأوروبيّ. فقد عزّز الاتّحاد الأوروبيّ جهوده الدبلوماسيّة الهادفة إلى نقل احتياطات المحروقات من قبرص إلى أوروبا من خلال مشروع خطّ الأنابيب في شرق البحر الأبيض المتوسّط.
إلى أيّ حدّ ستقوم تركيا بتصعيد المواجهة في شرق البحر الأبيض المتوسّط؟
بعد أن جازفت أنقرة بإعاقة تقدّم سفينة "سايبم 12000"، توّقفت أعمال التنقيب بشكل موقّت. واعتباراً من ظهر 14 شباط/فبراير، لم تغادر السفينة مكانها.
وبحسب الجدول الزمنيّ، يُفترض أن تنهي "سايبم 12000" أعمال التنقيب في "بلوك 3" قبل آذار/مارس. ويبدو أنّ خطّة أنقرة، في الوقت الحاليّ، تقضي بإعاقة خطط الملاحة الخاصّة بالسفينة وتأخير أنشطتها بدلاً من إثارة أزمة إقليميّة.
في الواقع، لكي نعرف ما إذا كانت أنقرة ستصعّد الوضع، علينا أيضاً أن نراقب الوضع في ميناء ديليسكيليسي بالقرب من اسطنبول، حيث لا تزال سفينة الحفر "ديبسي مترو 2" التي اشترتها تركيا مؤخّراً راسية بعد وصولها في مطلع كانون الثاني/يناير.
وتخضع هذه السفينة حاليّاً لأعمال صيانة نهائيّة بينما ينهي طاقمها دورة تدريبيّة حول توجيهها. ويُعتبر تاريخ مغادرة السفينة ووجهتها الأخيرة مهمّين للغاية وسيحدّدان ما إذا كانت أنقرة تريد التصعيد. وإذا رافقت سفن عسكريّة تركيّة السفينة إلى شرق البحر الأبيض المتوسّط، فسيكون ذلك مؤشّراً قويّاً على أنّ أنقرة تعتبر الأزمة مشكلة عسكريّة.