ربما تُقدِّم الأزمة القطرية مثالاً إضافياً عن المقاربة التي يعتمدها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السياسة الخارجية، وعنوانها "اقفز قبل أن تنظر". يبدو أن السير عكس التيار أصبح من سمات العلاقات التركية مع الشرق الأوسط منذ انطلاقة الربيع العربي الذي أصبح الآن شيئاً من الماضي.
قال رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو كلاماً واضحاً عن الدور التركي قبل خمسة أعوام، عندما كان وزيراً للخارجية ومهندس عدد كبير من الإخفاقات التي منيت بها أنقرة في المنطقة. فقد أعلن أمام مجلس النواب في نيسان/أبريل 2012: "يُنظَر إلى تركيا في المجتمعات الشرق أوسطية كافة اليوم ليس فقط كدولة صديقة وشقيقة، إنما أيضاً كبلد يتمتع بالقوة اللازمة لقيادة فكرة جديدة ونظام إقليمي جديد".
بيد أن تركيا لم تتحول إلى قوة ريادية ترسم من جديد وجه المنطقة. فأنقرة تكون سعيدة اليوم إذا تمكّنت من حماية مصالحها الأمنية. لقد تركتها تطورات لم تتوقعها البتة، في مواجهة مشكلات على أكثر من جبهة واحدة في الشرق الأوسط.
أضافت الأزمة القطرية بعداً جديداً إلى هذه التطورات، وسوف تحتاج إلى حنكة ديبلوماسية للتعامل معها. لقد اصطفت أنقرة إلى جانب الدوحة بدلاً من اعتماد موقف آمن عبر الوقوف على الحياد، وتجنُّب تهديد علاقاتها مع أعضاء مجلس التعاون الخليجي.
قال أردوغان إن معاملة قطر "غير إنسانية"، وقرّرت أنقرة على عجل إرسال قوات إلى الدولة الخليجية المحاصَرة تعبيراً عن الدعم لها. في الواقع، يعود الاتفاق الذي يجيز لتركيا إنشاء قاعدة عسكرية في قطر إلى ما قبل الأزمة الراهنة، غير أن إقراره في مجلس النواب كان معلّقاً لأسباب تقنية.
غير أن توقيت القرار الذي اتخذته الحكومة للتعجيل في إقرار الاتفاق عن طريق البرلمان كان ذا أهمية. فقد اعتُبِرت هذه الخطوة، التي جاءت فور إعلان فرض الحصار على قطر، بأنها تشكّل تحدياً للتحالف العربي الذي تقوده السعودية.
تصرّ أنقرة على عدم وجود رابط بين نشر قوات تركية في قطر والخلاف بين هذه الأخيرة والدول المجاورة لها. قال نائب رئيس الوزراء نعمان كورتولموش للمراسلين في أنقرة في الثالث من تموز/يوليو الجاري: "ليس للتوتر والخلاف بين الدول الخليجية أي علاقة على الإطلاق [بالقاعدة العسكرية]".
أضاف: "ليست القاعدة العسكرية التركية موجودة في قطر من أجل الأمن القطري فقط، إنما من أجل أمن المنطقة برمتها"، مشدّداً على أن القاعدة ستبقى.
رفض أردوغان الطلبات التي وجّهتها الرياض وحلفاؤها إلى قطر لإغلاق القاعدة التركية، واصفاً هذا المطلب بأنه "غير شرعي".
وقد جاءت زيارة وزير الدفاع القطري خالد بن محمد العطية إلى أنقرة الأسبوع الماضي، فيما كانت القوات التركية قد بدأت بالتوافد شيئاً فشيئاً إلى قاعدتها في قطر، لتؤجّج التكهنات حول النوايا التركية.
تصميم أنقرة على إبقاء قواتها في قطر دفعَ بالسعودية وحلفائها إلى رفع مستوى الإلحاحية في المطالبة بإغلاق القاعدة العسكرية. وأصبح هذا البند بين المطالب الثلاثة الأولى التي رفعوها إلى قطر ضمن قائمة مطالب مؤلفة من 13 بنداً يُشترَط على قطر الموافقة عليها من أجل رفع الحصار عنها.
ووضعت هذه المسألة أيضاً تركيا ودول الخليج في موقف خصومة على الأرجح، وربما قضت على رغبة أنقرة في نشر قوات في دول خليجية أخرى. فقد رفضت السعودية العرض التركي بذريعة أنه لا حاجة إلى مثل هذه القاعدة على أراضيها.
عبّر السفير السعودي لدى تركيا، وليد الخريجي، بوضوح عن موقفه في مقابلة مع صحيفة "صباح" التركية الناطقة باللغة العربية الأسبوع الماضي. قال الخريجي في المقابلة التي نشرتها أيضاً وسائل الإعلام السعودية: "كنا نأمل بأن تبقى أنقرة على الحياد حفاظاً على حسن العلاقات مع دول الخليج كافة".
أضاف: "عندما اصطفت أنقرة إلى جانب الدوحة، فقدت حيادها"، محذّراً من أن "إحضار جيوش أجنبية من بلدان إقليمية وآليات مدرّعة هو تصعيد عسكري سوف تتحمّل قطر تبعاته".
وقد رجّع الخريجي في كلامه هذا صدى تحذيرات صدرت سابقاً عن وزير الخارجية البحريني الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، الذي غرّد في 25 حزيران/يونيو الماضي أن "نشر قوات أجنبية مع آلياتها المدرّعة هو تصعيد عسكري سوف تتحمّل قطر تبعاته".
يتناقض هذا الكلام مع تصريح سابق لخليفة في اسطنبول في العاشر من حزيران/يونيو خلال زيارته إلى العاصمة التركية لمناقشة الأزمة القطرية مع أردوغان. فقد قال آنذاك إن الهدف من القاعدة التركية في قطر هو حماية المنطقة من التهديدات التي يمكن أن تنشأ. تُظهر الانعطافة في موقفه أن التحالف الذي تقوده السعودية مصمّم على تضييق الخناق على قطر، وتُزعجه الجهود التي تبذلها تركيا للحؤول دون ذلك.
في حين أن الدوحة سعيدة بلا شك بالدعم القوي الذي تحصل عليه من أنقرة، يتساءل كثرٌ في تركيا عن الدوافع التي جعلت الحكومة التركية ترسل قوات إلى قطر في هذه المرحلة الحسّاسة.
يقول السفير المتقاعد علي تويجان إن الأسباب التي دفعت بتركيا إلى إنشاء قاعدة في قطر لم تُشرَح كما يجب للرأي العام. فقد سأل في مقال عبر مدونته Diplomatic Opinion: "إذا كانت المسألة تتعلق فقط بتأمين تدريب عسكري لبلد صديق، فلماذا الحاجة إلى إنشاء قاعدة عسكرية؟ وإذا كانت الدولتان تواجهان تهديدات ’مشتركة‘، فما هي هذه التهديدات؟"
وإذ انتقل تويجان للحديث عن الأزمة الأكثر فورية بالنسبة إلى تركيا، أشار إلى أن الأفرقاء في سوريا يجهّزون أنفسهم للتعامل مع الهزيمة الوشيكة لتنظيم "الدولة الإسلامية" ويتنافسون على السيطرة على مواقع القوة.
تابع تويجان: "في هذا الظرف بالذات، لا يجوز أن تكون قطر صديقة أنقرة الوحيدة في العالم، ولا يجوز أن تستمر أنقرة في خوض مزيد من المعارك".
قال الميجور جنرال المتقاعد أرماجان كولوغلو لموقع "المونيتور" إن نشر قوات قتالية في قطر في هذا التوقيت يوجّه الرسالة الخطأ إلى العالم، متسائلاً: "هل يعني ذلك، مثلاً، أن تركيا سوف تشن هجوماً على دول الخليج الأخرى من أجل قطر؟"
تأتي هذه الأزمة في وقتٍ تقوم فيه تركيا بنقل قوات ومدفعية ثقيلة باتجاه الحدود السورية. تشير التقارير الصحافية إلى أن تركيا تستعد لشن عملية محتملة في سوريا لدفع المقاتلين الأكراد التابعين لـ"وحدات حماية الشعب" إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلّوها على مقربة من حدودها. تعتبر أنقرة أن "وحدات حماية الشعب" تنظيم إرهابي يستهدف تركيا.
لفت كولوغلو إلى أن الموقف التركي من الأزمة القطرية تسبّب بالفتور لدى السعودية ودول الخليج الأخرى تجاه تركيا، ولذلك من غير المرجّح، في رأيه، أن تحصل تركيا على دعم حماسي من هذه البلدان في حال قيامها بشن عملية عسكرية في سوريا.
قال ميثات رندي، الذي كان مبعوث تركيا لدى قطر بين العامَين 2007 و2009، إن هذه الأزمة كان لها وقع المفاجأة على أنقرة. وأضاف في حديث لموقع "المونيتور": "لم نتوقّع ذلك. لم يقم أحد في المنطقة باستشارتنا. قرروا قصّ جناحَي قطر ودفعها إلى الرضوخ من دون إعلامنا بذلك. لا تُعتبَر تركيا لاعباً على الساحة. لو كنّا كذلك، لطلبوا منا التدخل".
وقد اعتبر أن قيام تركيا بإرسال قوات عسكرية إلى قطر في هذا التوقيت هو بادرة دعم، مضيفاً: "حصار قطر غير مقبول وغير أخلاقي. لهذا السبب وقوف تركيا إلى جانب قطر مفهوم من وجهة نظر أخلاقية. إلا أنه من الواضح أن الجنود الأتراك لن يخوضوا قتالاً".
تابع رندي أنه كان من الأجدى بتركيا تأدية دور أفضل – مثل دور الميسّر بين الكويت (التي تبرز في دور الوسيط الأساسي في هذه الأزمة) وقطر – عندما طرأت مسائل تحتاج إلى جرعة زائدة من المساعدة.
في حين يتوقّع كثرٌ أن هذه الأزمة قد تستغرق بعض الوقت لإيجاد حل لها، قد تُرغَم تركيا على إعادة دوزنة سياستها من أجل جعلها أكثر انسجاماً مع الوقائع على الأرض.