في تغريدة نشرها في العاشر من شهر آذار/مارس الجاري وزير الدّولة للشّؤون الخارجيّة في الإمارات، أنور محمد قرقاش، الذي خاضت بلاده أكثر من خلاف مع تركيا في الآونة الأخيرة، عبّر بإيجاز عن الوضع بقوله، "لا يُخفى على المراقب أنّ العلاقات العربيّة التركيّة ليست في أحسن حالاتها".
كذلك طلب قرقاش من أنقرة أن "تراعي السّيادة العربيّة وأن تتعامل مع جوارها بحكمة وعقلانيّة".
يؤشّر توقيت هذا الكلام إلى أنّه أتى على خلفيّة عمليّة "غصن الزيتون" التي تشنّها تركيا ضدّ وحدات حماية الشّعب الكرديّة في شمال سوريا. وربما كان قرقاش يقصد أيضاً التقارير التي تحدّثت عن أنّ أنقرة تُعِدّ العدّة لعمليّة مشابهة ضدّ حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.
يعتقد كثرٌ أنّ قرقاش لم يكن يتكلّم باسم الإمارات العربيّة المتّحدة فحسب عندما أعرب عن مخاوفه بشأن الممارسات التركيّة في المنطقة. فقد جاءت تغريدته بعد أيّام قليلة من نقل الصّحافة المصريّة عن وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قوله بأنّ تركيا تنتمي إلى "محور الشر" في الشّرق الأوسط، وهذا المحور يضمّ أيضاً إيران و"مجموعات دينيّة متشدّدة".
وقد قيل إنّ الأمير أدلى بتصريحاته هذه في خلال زيارته إلى القاهرة الأسبوع الماضي، عندما التقى رؤساء تحرير الصّحف المصريّة.
من الواضح أنّ "المجموعات المتشدّدة" التي يُقال إنّ ولي العهد تحدّث عنها، هي جماعة "الإخوان المسلمين" والتّنظيمات التابعة لها، التي يشعر الرّئيس التركي رجب طيب أردوغان و"حزب العدالة والتنمية" الإسلامي بتقاربٍ وثيق معها.
وقد أصدرت السّفارة السعوديّة في أنقرة، ربما تحت تأثير الضّغوط الدبلوماسيّة من الجانب التركي – الذي ارتأى عدم الرّدّ رسميّاً على الأمير – بياناً اعتبره عدد كبير من المراقبين الأتراك نفياً أقلّ من مقنع.
فقد نفت السفارة في بيانها صحّة التقارير عن كلام الأمير، مشيرةً إلى أنّه لم يأتِ على ذكر تركيا، بل قصد بكلامه "ما يُسمّى بجماعة الإخوان المسلمين والجماعات الراديكاليّة".
إنّما لم يصدر نفيٌ مماثل عن السّفارة السعودية في القاهرة، أو عن الرياض. أمّا طهران من جهتها فقد اعتبرت أنّ تلك التصريحات وردت فعلاً على لسان الأمير، ووصفتها بـ"الصبيانيّة".
في غضون ذلك، سارعت وسائل الإعلام الموالية للحكومة في تركيا إلى شنّ هجوم على السعودية. فقد قام سليم أتالاي، وهو صحافي مخضرم يكتب في صحيفة "ستار"، باتّهام وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان بأنّه بعيد كلّ البعد عن الواقع.
وكتب أتالاي، "من شروط وجود هذا المحور هو أن تكون زوايا المثلّث الثلاث في حالة انسجام. من الواضح أنّ الأمير لم يفكّر ملياً ويسأل نفسه ما هي المسائل التي يتّفق حولها كلّ من إيران، والإخوان المسلمين وتركيا".
والمقصود من كلام أتالاي هو الخلافات بين أنقرة وطهران حول النزاعات الإقليميّة، والنفور من الإخوان في إيران.
وأضاف أتالاي، "إذا أردنا البحث عن هندسةٍ للشرّ في الشّرق الأوسط، يجب أن نبدأ مع السعودية، وأن نشمل الإمارات، ومصر وإسرائيل".
يبقى التنافس قائماً بين تركيا ذات الأكثرية السنّية وإيران ذات الأكثرية الشيعيّة، لا سيّما في سوريا حيث تدعم طهران النظام، فضلاً عن مطالبتها أنقرة بوقف عمليّتها العسكريّة ضدّ وحدات حماية الشّعب في عفرين.
وكان أردوغان، في كلمة ألقاها في البحرين في شباط/فبراير 2017، قد شنّ هجوماً عنيفاً على ما أسماه "القوميّة الفارسيّة"، ودعا إلى كبح الأهداف التوسّعيّة الإيرانيّة في الشّرق الأوسط.
يتبيّن إذًا أنّ الانتماء إلى الإسلام والمذهب السنّي، وتشارُك المخاوف عينها من أطماع طهران في المنطقة، ليسا كافيَين من أجل بناء العلاقة التي كان يتطلّع إليها أردوغان وحزب العدالة والتنمية مع الأنظمة العربيّة السنّية.
قال للمونيتور السفير التركي المتقاعد سُها عمر، الذي كان سفيراً لبلاده في العاصمة الأردنيّة عمان، إنّ حكومة حزب العدالة والتنمية لم تنجح في فهم الحساسيّة التاريخيّة للعالم العربي إزاء الحكم العثماني الذي استمرّ ستمائة عام في المنطقة.
في كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، ردّ أردوغان بغضب بعدما قام وزير الخارجيّة الإماراتي عبدالله بن زايد آل نهيان بإعادة نشر تغريدة عبر "تويتر" تتّهم القائد العثماني فخر الدين باشا بسرقة مخطوطات وأشغال يدويّة إسلاميّة ونقلها إلى اسطنبول في خلال حصار المدينة المنوّرة في العام 1916.
وقد جاء في التغريدة، "هؤلاء هم أجداد أردوغان وتاريخهم مع المسلمين العرب".
لم يتوانَ أردوغان عن الرّدّ بقوّة على آل نهيان. فسأله غاضباً، "حين كان أجدادي يدافعون عن المدينة المنوّرة، أين كان أجدادك أيها الصّفيق؟"، في إشارة واضحة إلى الثورة العربيّة التي شُنَّت بتحريض بريطاني ضدّ العثمانيّين المسلمين في خلال الحرب العالميّة الأولى.
وقد لفت عمر إلى أنّ دعم أنقرة القوي لجماعة "الإخوان المسلمين" أثار أيضاً مخاوف شديدة لدى الأنظمة العربيّة. فتركيا تعتبر الإخوان تنظيماً سياسياً مشروعاً، في حين ذهبت الرياض، فضلاً عن مصر، إلى حدّ تصنيفهم في خانة التنظيمات الإرهابيّة.
في الوقت عينه، يبقى الخلافٌ قائماً بين أنقرة والقاهرة في أعقاب الانقلاب الذي شهدته مصر في العام 2013 والذي وضع حدّاً لحكم الرّئيس محمد مرسي على رأس حكومة منتخَبة ديمقراطيّاً قوامها الإخوان، والتي لم تُعمّر طويلاً في السلطة. ولا تزال العلاقات باردة جداً بين مصر وتركيا.
هذا ويشكّل الدّعم العسكري والسياسي غير المشروط الذي تقدّمه أنقرة إلى قطر، التي ترزح حالياً تحت حصار يفرضه عليها التحالف الخليجي بقيادة السعودية، مسألة إضافية مسبِّبة للخلاف الشديد بين أنقرة والرياض.
تساور الرياض أيضاً شكوك بشأن التعاون بين تركيا وإيران في سوريا، في سياق "عمليّة أستانة" التي ترعاها روسيا، على الرّغم من الخلافات الشديدة بين أنقرة وطهران على خلفيّة الأزمات السوريّة.
وقد أبدت تركيا بدورها امتعاضها عندما اكتفت السعودية بتمثيل منخفض المستوى في القمّة الاستثنائيّة للقادة المسلمين التي انعقدت في اسطنبول بدعوة من أردوغان في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي بهدف مناقشة موضوع القدس.
وأعربت أنقرة أيضاً عن غضبها من القرار الذي اتّخذته مؤخّراً مجموعة "أم بي سي" المملوكة من السعودية بوقف عرض جميع المسلسلات والبرامج التلفزيونيّة التركيّة التي تحظى برواج واسع في مختلف أنحاء الشّرق الأوسط. فقد قال وزير الثقافة والسّياحة التركي نعمان قورتلموش في مقابلة مع قناة الجزيرة إنّ القرار "تحرّك سياسي" و"رقابة واضحة".
من جهة أخرى، لم تلقَ عمليّة غصن الزيتون التي تشنّها تركيا في شمال سوريا، ترحيباً في العالم العربي، مع استثناء واحد لافت يتمثّل في دولة قطر التي تعتمد على الدعم التركي في نزاعها مع السعودية.
وإنّ القلق الذي أثارته العمليّة لدى البلدان العربيّة عبّرَ عنه على الملأ أمين عام جامعة الدول العربيّة أحمد أبو الغيط في مؤتمر ميونخ للأمن في شهر شباط/فبراير الماضي. ففي جلسة نقاش حضرها وزير الخارجيّة التركي مولود جاويش أوغلو، نبّه أبو الغيط تركيا إلى وجوب توخّي الحذر "عند التدخّل في بلدٍ عربي جنوب حدودكم".
فقال جاويش أوغلو، ردّاً على أبو الغيط، إنّ تركيا تستخدم حقّها المشروع في مكافحة الإرهاب في سوريا، وانتقد جامعة الدول العربيّة لعجزها عن منع النظام السوري من قتل نصف مليون نسمة. وردّ جاويش أوغلو الذي بدت عليه علامات الغضب، "هذه هي منظومتكم"، في محاولة واضحة للحطّ من قدر الجامعة العربيّة.
يستشفّ ابراهيم كراغول، رئيس تحرير صحيفة "يني شفق" الإسلاميّة الموالية للحكومة التركيّة والمعروف بمواقفه الناريّة، مؤامرة ضدّ تركيا يحوكها "محورٌ" في الشّرق الأوسط شكّلته الإمارات، والسعودية، وإسرائيل والولايات المتّحدة.
ويقول كراغول، "أنشئ هذا المحور لوقف تركيا، من أجل إفشال عمليّة عفرين، وتحقيق مشروع الدولة المتعدّدة القوميّات بهدف تطويق بلادنا".
في غضون ذلك، لا تزال تركيا على علاقة متزعزعة بالعراق الذي يصرّ على المطالبة بسحب القوّات التركيّة المتمركزة في معسكر بعشيقة قرب الموصل.
أما تركيا والأردن فيستمرّان في الحفاظ على مظهر العلاقات الجيّدة. غير أنّ كثراً يتذكّرون أنّ العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني اتّهم تركيا، بحسب ما أفادت التقارير، بالسّعي وراء "حلول إسلاميّة متشدّدة" لأزمات الشّرق الأوسط، وذلك أثناء لقائه أعضاء بارزين في الكونغرس في واشنطن في كانون الثاني/يناير 2016. وفي هذا الصّدد، يقول عمر إنّ العلاقات التركيّة مع العالم العربي تشهد توتّراً في الوقت الراهن لأنّ أنقرة أساءت تماماً قراءة الأوضاع في الشّرق الأوسط، لا سيّما بعد العام 2004.
ويلفت في هذا السياق، "قبل ذلك، كانت سياستنا تستند إلى عدم التدخّل في الشّؤون الداخليّة للبلدان العربيّة، والسّعي إلى المساهمة في السّلام في الشّرق الأوسط، وتعزيز مصالحنا الاقتصاديّة".
ويردف عمر بقوله، "غير أنّ حزب العدالة والتنمية بدّل هذه السياسة تماماً، فبدأ يتدخّل في شؤون البلدان العربيّة، لا بل حاول أيضاً تنظيم هذه البلدان وفق رؤيته الخاصّة".
كل ما تبقّى لتركيا اليوم، وفقاً لعمر، هو محاولة العمل مع إيران وروسيا كي تتمكّن من تحقيق ما تصبو إليه في الشّرق الأوسط؛ غير أنّ إيران وروسيا هما الدولتان اللتان تثير دوافعهما الخشية الأكبر لدى الأنظمة العربيّة. وغالب الظّن أنّ ذلك سيقود إلى مزيد من التشنّجات في العلاقات التركيّة-العربيّة.